يوما بعد يوم، تدفعنا الأحداث، في يقظة أكثر من يقظة، فنرفض النوم، نهرول يقظين كي لا يتكرر ما حدث من غفلة لخرائب وحزن الانتفاضة الشعبانية في تسعين الموت الجماعي. يوما بعد يوم تفتح كوتها الأيام لتلقي بنا خارج صفاتنا نضيع في دهاليزها الليلية بمحاذاة الليل و لا ضفة لنا سوى الظلام. أحيانا كنا نخدع الفراش فنتكور فيه لننفتح في تجوال من الأفكار، وأحيانا أخرى نتركه واجما بلا طيات تحركه الأقدام بلا حس .الجسد لا يطرق تلك الملاءات ولا يلامسها فما زلنا لم نكتشف بعد موقع الخلل، تتحرك أقدامنا بسكون يمينا ويسار بلا منطق تحت الأسرة الخامدة في حركتها الوانية القلقة ؛إنها دواع الحرب دون شك.
تمر الأيام ولم أقرر الرحيل وأولادي، رغم إلحاح أحد أقاربي للالتحاق بهم .. إلى قرانا الآمنة. لا ادري يومها لماذا كنت رافضة ذلك، وكأن شيئا ما في داخلي كان يمنعني، أقنعت من بمعيتي أسبابي، وقد أسلمنا إلى قناعة إن ما كتب على اللوح يجري ولو كنا في قصور مشيدة؛ انه الرضا بالمقسوم . تقودني الأفكار من زوايا ألانعطاف إلى زوايا أتوقف عندها لضرورة حتمية عن كل ما يدور من حولنا، زوايا لا تدركها إلا النساء، وبغريزة المرأة اقتربت من بيتي أكثر وأنا التي كنت قريبة منه أبدا حين كان محاصراً بالكوارث والأزمات والحروب المتكررة كما البيوت العراقية التي تجاورني في في حزنها المترع بالآهات نتجاورفي الفرح والنجاح والحب ايضا.كم اتذكر مدى قربي منه-بيتي- ساعة هروبنا إلى الجبال التي التحفناها مهادا لأولادنا حين كانوا في لفافاتهم البيضاء، حينها كنا نذوب فوق كفن الطين، وكم كنا نكسر باب المعتقل في برد الصقيع. لطالما كان الزمن غير مستقر ولطالما كنت واثبة الخطوة مثلهن –العراقيات- البواسل مثلما الموقف يتطلب إنها الحكمة –فكنت- ولا شئ غير ذلك . وكأن الأمور ألقت بعبئها علي مرة واحدة في ريعان العمرانذاك ،أتذكر وكم أخرى مثلي تزجي بدفاترها بذاك السواد الكحلي في حبر بوحه من الذكريات في قفار تلك المسالك التي ألقت بمنزلق تحت اقدام حياتنا؟ كنت أؤجل التفكير بالملل والضجر؛ لأنني ملزمة بأداء الكثير وقتها من الالتزامات تجاه ذلك البيت الذي بنيته مبكرا وأنا طالبة جامعية. لكنه زمن الحرب!
كنت أراقب الأولاد أكثر من ذي قبل وربما طيلة اليوم حتى صرت أكثر شبه بهم لغاية في نفسي يحتمها الظرف وإحساس لم أجد في قراءته إلا في ذلك الوقت الوذ بزواياه. أما الكبار من حولنا فقد تميزوا بالوطنية وصاروا جدارا منيعا لبيوتهم ، صممنا جميعا على السهر في تلك الليلة - ليلة الصدمة والترويع- كما أسموها، أحسست يومها بحمى تمتلكني؛ لأنني صرت أبذل جهودا مضاعفة برفقة القلق الذي أستبد بي، حتى كنت اهبط إلى سريري في آخر اليوم وانية ثقيلة تعشي الوساوس فكري.
وكيف دفعتني إلى أن أكون أشبه – بالنمرة- التي تخاف على أولادها حتى صرت أتجول في أركان البيت في وجل كي لا أقف عاجزة أحاول أن أجد زاوية تكون أكثر أمانا للاختباء ساعة القصف الجوي لأضمهم؛ ولكي أحمي أحلامهم التي تلبستهم وتلك تكهنات ما يدور من أحلامي لهم وبهم. ساقتني خطاي إلى مخبأ - زاوية تحت سلم البيت الداخلي؛- (ربما سيكون ساترا) ساعة الروع إذا قرع الموت بطبوله فوق سماء المدينة .فما زالت صور أفاعي الشرّ وطغاة العالم الجديد تعاودني وأحداث التسعينيات من المنا المباح، أتذكرها جيدا و صرير طائراتها تلك. أسرعت كمن صفع، وضعت عددا من الوسائد ك(-ساترا،يحتمون به ) صغاري ساعة المحظور ، (لم يكن ذلك المخبأ سوى مكان مستطيل الشكل بعيد ا ومحمي بسقف إسمنتي ثان ليحمينا من شظاياهم الذكية ، لقنابلهم الغبية)
كنت أختلق النجاة دون تأكد لأقلص خوفها. رغم توجسي من الداخل وأنا التي أخاف أن افقد صبري، فالضغوط كبيرة من الخارج وعليّ أن حافظ على كل ما ينبض بالحياة من حولي سأمت خفق قلبي الشديد فان رجفة قاضية منه تكاد تنهي اجلي ..لولاهم، ولطالما كنت جاهدة أن لا يبدو ذلك أمام تلك الحد قات الناعمة وهي تتقافز فرحا في نهار الكون العائم بأكاذيب الديكتاتوريات التي طوقتنا من كل حدب وصوب في ألفيتنا الفاجعة المكرسة للحروب والنزاعات ، حدقات تبرق بالبراءة لا تعرف حقيقة هول ما سيجري، وكنا نخبرهم بيسر لنخفف من وطأة الأمر؛ كي يفهموا بعض من نقاء الكبار!!
اشغل نفسي أحيانا بالمشي وأحيانا في القراءة وأحيانا بسدور أملكه بعض الوقت بأنفاس مشوبة . تلك آثار القلق دون شك. الشحوب بدا واضحا على وجهي اشعر وكأنني وحدي تماما وكثيرا ما كان الدمع يغشي اطمئنان عيوني، لكن لم ننس أن الله في الجوار دوما، ولطالما أحسست بقربها- السماء - من سقف تضرعي متيقنة أن العناية الإلهية تحفنا وكثيرا ما كنت اختار مجلسا منعزلا أمسك به اكف الحبيبة ابنتي والصغير أميري المدلل لأشرع معهم بدفء عجيب في حديث صغير أصغر من أحلامهم التي هي أصغر من خوذة المحتل، اسحب يديهما اقبلهما نتبادل أحاديثنا البسيطة التي تعقد أفكاري فأرقب حركة الأشياء التي يعج بها رأسي بصداع الممكن واللا ممكن، يصرفني ذلك عن هول ما يحدث بهول ما سيحدث، أهدئ روعي :
ليت الأولاد يكبرون قليلا في ميعة صباهم . ليفقهوا مكابدتنا التي دقت أفق أرواحنا وهي تحمل احتراقنا الذاتي في جمر الوطن، ليتهم لا يقبلون قلبي كل ساعة ليذكروني بذنبي في إنجابهم في هذا الزمن الوقح،
تغيرت معظم الأشياء فجأة، مناظر الشوارع ،الناس، حركة السيارات حتى المساءات صارت تهدأ مبكرا فساعة الطلق بدأت في مخاضها العسير، لتتعسر الولادة؟ كادت تقضى علينا داخل جدران البيوت في غرف أضحت لا تمتلك الكثير من مزاياها ، نعم كنا قابعين فيها بملامح لا تخفي عجزنا، نحمل العبء، في وقت فزع و قائظ ليسري في مفاصل الساعات فيبقينا بعيدين عن العالم، منذ سنين الحصار ورواسبه، ونحن بعيدين يسوقنا قصيا كي لا نتواصل ولا حتى بخيط عنكبوت مع أنفاس الكون الكبيرة وبعد كل هذا الحصاد والصبر والملل المبعد نرتبط مع العالم ثانية -باشتباك حربي- !! وذلك زوادة الصبر المرير مع أشراف الكراسي و أصحاب الرأي السديد من حكام وأسياد الزيف الوطني وأنظمة العالم المتفاعلين بعدالة التواطؤ الخفي مع الأنظمة المتخاذلة جدا، حد هلاكنا . لم يكن هناك (أدب تسجيلي) أخباري، كان هناك فقط نقل لوقائع الخبر مباشرة عن كاميرات قد نصبت على أبنية الفنادق وسطوحها (بعض من وسائل الأعلام المبثوثة للعالم)
بعضنا تفاءل بشعور عاطفي للتخلص من عبء النظام الذي ينهار، والآخر تفاءل يتصالح مع الظرف راجيا من ذلك نتائج إيجابية في الخلاص من الثقل الذي جثم على صدورنا سنينا عديدة . ومهما كانت النتائج صعبة أو مستحيلة الحدوث ليس علينا أن نفهم!! فالبعض كان يخاف جدا لأنه من رجال النظام والنتائج حول مصيره معروفة. وآخرون يتوعدون بالانتقام في خضم ذلك. تضوعت في الدروب رائحة الخوف والموت المجاني في حروب أهلية ..ربما؟ وقد تردد ذلك في ذاكرة الجميع وهي- الذاكرة- المشحونة بالذكريات المصمتة والموجعة في رذاذ الأسئلة من مساء ثائر يأكل في أرغفة الزمن و تنانيره. الحكومات الضليلة كانت لاهية هي الأخرى تدير طاحونة الدمار في ارض انكيدو لتجسد- تلك الأنظمة- إبداعها في التخلف العصري خارج وداخل البلاد. هكذا شاءوا في القسم - الجنوبي الغربي من آسيا – على أرضنا الحبيبة (العراق) لابد وأنهم في -المستنقع الفيتنامي ثانية- في دلج ليل بلا أدنى شك . ومع هذا التصاعد تألق الشعب في توحد الضمائر وأريحية الصمود. أول الأمر صرنا نلتصق بالأرض في وطن يعشق النخيل ولاشك ؛ فذلك ديدن الأحرار كنا نرتفع إلى مستوى المسؤولية وسط ظروف خطيرة تحيط بنا من شمال الوطن إلى بصرة العشار. وكان في ميسور البعض أن يكون مفيدا أيضا في وجه الليل في قلق الكاتب ليدون قصيدة مبتورة القافية ليؤرخ المشهد كي لايضيع في سراب الغبار، وكانت تلاوة القرآن والتضرع رغيفنا المسائي . وأحيانا أخرى كنا ندون عصارة الخاطر كلاما منثورا ننثه عبارة مؤلمة تصلح أن تكون شاهدا على مقابر الأحلام في فيض زمن لا يطلق صراخ قهقهته والتي ملأت نفس مغيبة عن الإفصاح في يوم جحيمي في وطن الشعر و آدمه ، وطن، سارد، ماهر لمصائب أهله. وما أكثر الروايات التي أنجبتها الحروب .
وكنت كما اليوم ما أن انهي واجباتي اليومية حتى ابدأ بالتدوين الذي صار رسالتي الفكرية المدونة في مسودات ورقية أدسها بين أغراضي على طاولة صالحة تهبني نفسها لتحمل كاهل دفاتري الباسلة التي تمتص الخوف من أغوار نفس تحاول التملص من مخالب الخوف. وكم سال حبرها وتساءل حينها من خلف تلك المتاريس