حاولتْ "أليس" أن تعيش عالمها الحقيقي لا المتخيل؛ غير أنها كلما أرادت العودة لعالمها الحقيقيِ كلما طعنتها كلماتُه وعيونُه وتلك النظرات الجوعى التي لم تفهمْها؛ لكنها كانت تخشاها، كان الصمت هو ملاذُها، ودموعُها تسبقها كلما طافت بها تلك اللحظات. "أليس" شابةٌ صغيرةٌ لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، جميلةُ الطلّة، مشاكسةٌ؛ تجري وتحاول التحليق كما الفراشات، هكذا رأت أفلام الصور المتحركة، وهكذا عاشت في ذهنها أسرارُ الطفولة، غير أن طفولتها لم تكن تحمل الفرح الطفوليّ فقط؛ فكثيراً ما طالتها تلك الأيادي الخشنة؛ لتسرق لذّتها المحرّمة في ساعات العتمة، وتكتمَ على أنفاسها يدٌ أخرى تحاول؛ المقاومة؛ الصراخ؛ إلا أن الجسد المنكبّ على رقّتها كان لها كحائطٍ صخري. تصحو عاجزةً عن التنفس، تقنع نفسها أنه أسوأ كابوس في حياتها، غير أن نظراتِ أبيها -التي ترمقها على طاولة الإفطار في الصباح مهددةً- توقظها من سُباتها، وتدركُ أنه عالمٌ حقيقيٌ، وأنه أبٌ حقيقيٌ وهي ابنةٌ حقيقيةٌ؛ غير أن الفكرة كلّها عجائبية؛ ولا تعني شيئاً حين تنطقها لأمها التي تُشيح بنظرها عنها، بل حين أطبقت عليها لحظة الألم صرخت؛ وصرخت؛ وصرخت: إنه أبي ..أبي.. أبي.. فلم تشعر إلا بسلك الهاتف يهوي على جسدها الصغير، ثم يهوى ويسلخها في ظهرها ويدها ووجهها.. وأمها الثائرةُ تهددها بنطق كلمةٍ أخرى فتُحرم من جامعتها وصديقاتها وحياتها..
مرّت ليلتان وعيناها مُحدّقتان في سقف غرفتها، أنفاسُها ترتفعُ حين تشعر بحركةٍ قادمةٍ من خارج غرفتها، البابُ غيرُ محكمِ الإغلاق، فكل مفاتيح الغرف مفقودة، يقف كالتمثال في وسط الغرفة، تنتفضُ وتُشهر سكيناً في وجهه: سأصرخ وأفضحك، سأنادي الجيران و.. ولم تكمل كلماتها؛ حتى كان قد أمسك بمعصمها وهوى على وجهها بصفعةٍ قويةٍ، وهُرع إلى خارج الغرفة. بكت كثيراً؛ وكادت تهرب من المنزل؛ إلا أن الخوف أسَرَها فلم تبرح مكانها.
"أليس" لم تعدْ تحتمل، وفكّرت في الانتحار كثيراً، غير أن خوفها من عقابِ السماء كان يمنعها من ذلك، لم تجدْ غير صديقتها في المدرسة؛ التي لاحظت شرودها وتعاستها فدعتها إلى بيتها، وفي غرفتها؛ أشارت "أليس" وقالت: "هذا سريري، وهنا يحاول أبي -بين الحين والآخر- أن يتحرّش بي..".
لم تكمل "أليس" كلماتها حتى فزعت صديقتها وأخذت في البكاء غير مصدقةٍ عالم "أليس" الحقيقي، كانت ترتجف؛ ثم هرولت من البيت خشيةً من والد صديقتها..
وجدت "أليس" نفسها وحيدةً مرةً أخرى.. ووجدت نفسها في مواجهة رغبات أبيها الدنيئة، لم تعدْ تفكرُ إلا في مستقبلها الذي فقد ملامحه، وفي محاولة إقناعِ نفسِها أنّ هذا الرجل ليس أباها, إنما هو زوجُ أمها، لذلك؛ يشتهيها..! أرادت أن تخلق لنفسها عالماً متخيلاً لا واقعي, فرأت نفسها معلمة رسمٍ تعلم الأطفال الصغار أن يطوروا موهبتهم في الرسم، وكيف يعبرون عن أنفسهم، ورأت صديقتها (التي هربت من منزلها ولم تعد تراها، وإذا لمحتها في الطريق غيرت مسارها) تشاركها أحلام الشباب؛ فتقضيان أوقاتهما معاً، وحين لاحت صورته أمامها؛ أفاقت من عالمها المتخيّل إلى عالمها الواقعي، وعادت لتناضل في سبيل حرية جسدها.. ولازالت تدفن آلامها وحيدةً بين أربعة جدرانٍ إلى الآن..!
"أليس" والعشرات مثلها يعشن في بلاد القشور، التي يتلفع فيها البعض بعباءة الدين والأخلاق وهم منها براء. "أليس" تُنتهك في عقر دارها؛ ومن أبيها، وربما أخيها أو عمها أو أبنائهم؛ ولا ينجدُها أحد، فهي –وحدها- التي تواجههم، وهي الوحيدة التي تتلقى طعنات خناجرهم؛ حمايةً لشرفٍ مسلوبٍ هم أول من سلبوه، وهي لا تملك سبيلاً سوى الصمت، ثم الصمت، أو الهرب، وإن نطقت؛ كشّروا عن أنيابهم ونعتوها بالعار، هي من تجلب العار لا هم..! من سيصدق "أليس"؟ أمها التي تحمل الثقافة الذكورية..؟ أم صديقتها التي خافت على نفسها..؟ من سيصدّق "أليس" في عالم الواقع..؟
أنا أوْلى من الغريب..!
هي البطلةُ دون منازع، وهي المناضلةُ التي تعُدُّ الثواني والدقائق ليحفظها الله من شرّه، هي شابةٌ جميلةٌ خريجةٌ جامعيةٌ وتعمل في إحدى المؤسسات، يقول لها أبوها دون مقدمات: "أنا أولى فيكِ من الغريب.." يهز أكتافه.. تقول: "..أراه شيطاناً في ثوب إنسان، وأخشى لحظتها أنه ليس أبي، عيناه تصبحان شراً مستطيراً؛ فأجد نفسي أُمسك عصاً بجانبي أو لوحاً خشبياً أو أيّ شيءٍ بقربي وأضربه به وأصرخ، يهرول إخوتي فينهرهم ويدّعي أن رأسي عنيد وأني أرفض أن أُعدّ له قهوته، باب غرفتي لا يُغلقُ عليّ، أمي تغطيني بجسدها وهي تعرف ما يحاوله أبي؛ لكن ليس بيدها أن تفعل شيئاً، كثيراً ما ضربها رغم أن صحّتها ليست على ما يرام، يرفض أيّ عريسٍ يطرق بابي ويقول: أنا أولى من الغريب، سأجعلك تركعين عند قدميّ وترفضين أنت الزواج..".
تلك المناضلة التي تحارب المرض والجهل والتخلّف والشهوة كلّ ساعةٍ من يومها، ورغم ذلك فهي فتاةٌ ناجحةٌ في دراستها وعملها ووجودها خارج إطار الأسرة، هي فتاةٌ راقيةُ الخلق والأدب والدماثة، لا تراها إلا مبتسمةً، تبرقُ عيناها بالأمل لكلّ من يقابلها، ولا أحد يدرك الحرب التي عليها مواجهتها لحظة دخولها بيتها، لم تشكّ يوماً بنواياه، فلسانُه السليطُ وكلماتُه القذرةُ التي يُلقيها على مسامعها، بالإضافة لقسوته مع إخوتها الذكور الأصغر سناً؛ والذين يبرحهم ضرباً إن حاولوا الوقوف في وجهه. باتت ترى الحياة لا شيء لولا إيمانها بالله ودعواتها التي لا تتوقف في صلواتها أن يبعد شرّه عنها، وأن يسترها عن عينيه وعن المجتمع، هي صامدةٌ مناضلةٌ ولا تفيها الكلمات حقها..
تُرى..؛ كم فتاةٍ محتجزةٍ بين جدران بيتها؛ والذئاب تحاول أن تنهشها من أقرب المقربين..؟! إن الحديث عما هو مسكوتٌ عنه يثير غيظ الكثيرين، ويصبح الألم أكبر حين يقولون: "لا أصدق ما لا أراه.."!! و: "هذه مبالغات لا أساس لها من الصحة" إنها مبررات يحاول أن يلقيها الكثيرون على مسامع من يؤمن بوجود مثل هذه الحالات، لأن الحلول معقدة ومخيفة وستربك الوضع العائلي والمجتمعي بأسره، فيجد البعض أن الأسهل قتل الفتاة الضحية بدلاً من الدفاع عنها وحمايتها؛ لأنها الحلقة الأضعف، أو يحاولون إسكاتها وإبقاءها بلا أملٍ وبلا مستقبل، وحيدةً تعتقد أنها الضحية الوحيدة في هذا العالم التي تعرضت لمثل هذه الجريمة؛ فلا تجدُ ملاذاً غير الصمت.
لقد أكدت العديد من الدراسات والأبحاث على وجود تحرّشات بالفتيات من قبل أقاربهن، وهي شكاوى باتت تجد طريقها لتكسر الصمت والتابوه الاجتماعي لما يتعلق بزنا المحارم أو سفاح القربى، وهنالك العديد من الدراسات التي كشفت المستور، وباتت الأرقام توضّح –بقوة- أن الكثيرين باتوا يكسرون عزلة الصمت، وأنهم يدركون أن هنالك الكثير من هذه الممارسات المسكوت عنها، من هنا؛ فقد أنجز "مركز شئون المرأة" في نهاية 2009 دراسةً حول تحديد أولويات قضايا النساء في قطاع غزة، وتمّ التوجّه باستمارة لـ400 رجل و400 امرأة، وتمّ سؤالهُم حول العديد من قضايا العنف؛ منها ما يتعلق بالتحرّش الجنسي وزنا المحارم؛ فقد أشارت 37.2% من النساء المشاركات في الدراسة أن النساء يتعرضن لسفاح القربى من أحد أفراد الأسرة، كما اتفقت أكثر من ثلث النساء 40.2% على الرأي والنص القائل أن "المرأة تتعرض لمحاولات التحرّش الجنسي" كما عبّرت نسبة من النساء عن الموافقة -وبدرجة شديدة- على انتشار هذه الانتهاكات في وسط المجتمع الفلسطيني، وذلك بنسبة 24.8%، أما رؤية الرجال في هذا الجانب؛ ففيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بوجود مثل هذه الانتهاكات؛ حيث عبّر 46.1% منهم أن هناك انتشاراً لمثل هذه الممارسات في المجتمع الفلسطيني.
وتشير المعلومات لدى "جمعية المرأة العاملة" أن أكثر من 75% من حالات الاعتداءات الجنسية هي لنساء تربطهن صلةُ قرابةٍ مباشرةٍ مع المعتدي، كالأب، الأخ، العم، الخال، وأن الحالات الأخرى تكون قد ارتكبت من قبل أشخاص معروفين للضحية مثل: المعلم، الجار، السائق(1).
وفي دراسة "القابضات على الجمر" التي قام بإعدادها "مركز شؤون المرأة"-غزة؛ فقد أشارت إلى أن حالات العنف الأسري المسجّلة في سجلات الشرطة الفلسطينية من شهر آيار 2004 وحتى آذار 2005 وصل عددها إلى 110 حالة في قطاع غزة، و154 حالة في الضفة الغربية؛ متضمنةً حالات تحرّش جنسي، ومحاولة اغتصاب، حالات اغتصاب فعلي، محاولة انتحار، حالات انتحار فعلية، شروع في القتل، قتل على خلفية ما يسمى بـ "شرف العائلة" .
لقد عالجت الاتفاقيات والإعلانات الدولية مسألة الاعتداءات الجنسية ضد النساء داخل الأسرة ضمن الموضوع العام المتعلق بالعنف ضد النساء؛ والذي يتخذ أشكالاً عدةً منها: الاعتداءات الواقعة داخل الأسرة، ولا يوجد إعلان أو اتفاقية خاصة؛ فقد عالجت الاتفاقيات والإعلانات الدولية مسألة الاعتداءات الجنسية ضد النساء داخل الأسرة ضمن الموضوع العام المتعلق بالعنف ضد النساء؛ والذي يتخذ أشكالاً عدةً منها: الاعتداءات الواقعة داخل الأسرة، ولا يوجد إعلان أو اتفاقية خاصة متخصصة في هذا الموضوع، على الرغم من أن النتيجة التي يسلم بها في الفقرة 23 من مرفق قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم 15/1990 بأن "العنف ضد المرأة سواء في الأسرة أو المجتمع ظاهرة منتشرة تتخطى حدود الدخل والطبقة والثقافة، ويجب أن يُقابل بخطواتٍ عاجلةٍ وفاعلةٍ تمنع حدوثه".
وقد ورد تعريفٌ للعنف الجنسي داخل الأسرة في الوثيقة الصادرة عن المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين عام 1995 (منشورات الأمم المتحدة، الفصل الأول، قرار رقم 1) ووفقا للمادة 2 من الإعلان فإن: "العنف ضد المرأة يشمل العنف البدني والجنسي والنفسي الذي يحدث في إطار الأسرة بما في ذلك التعدّي الجنسي على أطفال الأسرة الإناث".
وقد استخدم قرار الجمعية العامة رقم 52/106 بشأن الطفلة الأنثى مصطلح "غشيان المحارم" للدلالة على الاعتداءات الجنسية على الطفلة داخل الأسرة، فقد حثّ القرارُ جميع الدول على سنّ وتنفيذ التشريعات التي تحمي الإناث من جميع أشكال العنف؛ بما في ذلك وأد البنات، وتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى، وغشيان المحارم أو الاعتداء الجنسي والاستغلال الجنسي(2).
إن هذه الجريمة من شأنها أن تزعزع الأمان الزائف الذي يحاول المجتمع -بعقليته الذكورية- أن يدّعي أنه يوفره من خلال إسكات صوت الضحية وتجاهل المعتدي؛ كونه ذكراً ولا يعيبه أن يُكرّر فعلته مرةً ومرةً أخرى، لكن من واجبنا أن نقرع جدران الصمت، ونخرق الخزان، ونرفع صوت الضحية عالياً؛ لتجد من يناصرها ويدافع عنها، ولنرفع عباءة الخوف والظلم المجحف بحقّهن؛ ليجدن يداً أمينةً تمتد لهن وسط حلكة الظلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي 2001.
(2) الاعتداءات الجنسية داخل الأسرة بين الواقع والقانون، دراسة قانونية اجتماعية، مركز الدراسات النسوية 2006.