لذلك يبدو أن الروائي الحقيقي لا ينتمي بشكل كلي للعالم الحقيقي، لأنه يحيا في عوالم متنوعة، عالم يرصده في ذاته يتماوج مع وقع الشعور والفكر وتناقض النفس برفضها وقبولها وإقبالها وإعراضها، وعالم يرصده في الحياة من حوله بتغيرها وتقلبها، بثباتها وإنكسارها، يحيا بين الآخرين وبمقدار ما يشعر من العمق بداخله يرى العالم من حوله بمقدار هذا العمق إيضاً، لذا لا يحق ولا يجوز للروائي أن يكون سطحي الفكر والمنطق وإلا تهاوت روايته على عتبة الزمن وزالت من ذاكرة من يقرأ له، لا يحق ولا يجوز للروائي أن يرصد ذاته فقط من خلال روايته بل يجب أن ينطلق للذات الإنسانية بشمولها ورحابتها وألا ينغلق في حدود نفسه الضيقة والضحلة أحياناً، إنه الراصد للإنسانية، المتتبع لفكرها ولرفضها أو قبولها، إنه الشاهد الشعوري للوجود ولا تخضع شهادته للمنطق ولا لتسلسل الأحداث، إنه حر وطليق في تدوينه لما حوله لأنه لا يدون الوقائع بل يدون الشعور، والشعور لا يعترف بالزمان ولا بالمكان ؛ وبقدار اتساع رؤيته الإنسانية بمقدار اقترابه من كل جنسيات العالم ليصل إلى أعلى قمة من قمم الرقي الإنساني ألا وهي أننا جميعاً بشر ولا فرق بيننا سوى بما أصطنعناه لأنفسنا من فروق خلقت المساحات الفكرية والنفسية والعقلية والثقافية بجعلنا فصائل بشرية لا بشرا.
الرواية من أشد أشكال الفنون قرباً للإيمان لأن الروائي يمكنه أن يرى الوجود بأكمله من خلال هذا الإيمان الدافيء الذي يمنح كل الوجود المعنى والإرتقاء، وليس بالضرورة الإيمان بما يفرضه الدين على الإنسان من عبادات بل أيضاً ما يمنحه الإيمان للروح من إشراق ولأن العبادات هي أسهل ما يقوم به الإنسان دينياً ولكن الارتقاء بالذات الإنسانية وإلزامها بالصدق والاستقامة ومحبة الآخر مهما كانت الظروف هي من أصعب المُهمات الإنسانية، الروائي فقط يستطيع مزج هذه القيم التي تبدو صعبة في حياةٍ أصبحت تمتزج بالأنانية وانتقاد الآخر والبحث المحموم عن السعادة أو البعض منها، الرواية تُمكن الروائي من إبراز ما تُحدثه القيم الدينية من تأثير رقيق وعميق في الذات البشرية، على ألا تكون رسالة دينية مباشرة بل تتسلل عبر شخصياته بصدق وشفافية.
يكتب الروائي ليقدم روايته للآخرين، ولكن ما هو أجمل من تقديمها هو أن يقرأها بدايةً لذاته ويشعر بأنها عميقة متناغمة مع نبض الحياة، ثم يقرأها مرة أخرى ليشعر إن كانت متواصلة مع هموم وتطلعات من حوله، أن ينجح في مهمة التعبير عما لا يستطيع أن يقوله الآخرون، أن ينجح في تسليط الضوء على قضايا مدفونة في المجتمع ولكنها تنخر بأساساته وتخلخل بنيته الأخلاقية أو الفكرية، أن ينجح في جعل ما هو عادي وروتيني ويومي إلى أن يكون فكريا وشعوريا وانسانيا، أن ينجح بالإنسلاخ عن ذاته لكي يكتب عمن حوله وعما يدور حوله وعما يجول بأعماق الآخرين وفق رؤية فكرية ومنطقية ترقى بالمفاهيم العامة إلى مفاهيم راقية وشمولية.
القدرة على تشكيل عوالم متنوعة في روحه وعقله، الإنتقال مما هو محسوس إلى ما هو غير محسوس برحابته ؛ التحليق في عوالم خيالية ولكنها واقعية نحو أفق لا محدود، السير عبر الأحداث والشخصيات والأماكن دون عوائق وكأن الرواية روح أخرى للكاتب، تمنحه حياة أخرى ونبضا مختلفا للحياة، إن لم يكن الكاتب يعي هذه النعمة العظيمة ويقدرها فقد فاتته متعة الكتابة الحقيقية، فهو لم يكتب لأنه أراد الكتابة ولكنه كتب لأن الله تعالى منحهُ موهبة الكتابة وحين يُدرك هذه العطاء الجميل ويقدره ويحترمه فلا بد أن يكتب ما يليق بجمال هذا العطاء الإلهي بأن يحرص على القيم الأخلاقية والارتقاء بالذات البشرية خصوصاً في عالم معاصر يعتبر أن القيمة الأخلاقية اصبحت لا تناسب الرواية المعاصرة، ولكن الحقيقة هي أن ما هو ثابت بهذا الكون هو القيمة الأخلاقية وما يتغير به هو كيف نتعامل مع هذه القيم الأخلاقية، ولابد للرواية أن تحاول دائماً إيقاظ ما قد تم أهماله أو إسقاطه أو تجاهله من قيم لا تستقيم الحياة بدونها.