رائدة زقوت - الأردن
المرأة على اختلاف أماكن تواجدها، ماذا أعدت لغدها وكيف تقرأ التاريخ ؟ تاريخ المرأة العربية التي ما فتئنا نطالبها بأن تستعيد وضعه، وأن تعمل لتخرج من بوتقة التجهيل التي أراد لها البعض أن تُسجن فيها، وساعدتهم للأسف هي في السكون والخنوع لهذا السجن، يحمل لنا تاريخنا المشرف الكثير من قصص التميز التي خلدت أسماء نساء بحروف من ذهب، وكل امرأة خلدها التاريخ كانت لها قصة ورحلة مع نفسها ومع المجتمع الذي عاشت فيه، ومن هذه القصص ومن هؤلاء الخالدات اخترت أكثرهن إثارة للجدلـ ربما لأن الفاصل الزمني بين زمننا هذا وزمنها كان النقطة الأكثر غرابة ،التي تصب في صالحها، وتدفعنا للتعمق بما تملك المرأة من إمكانيات لو قدر لها أن تنطلق على سجيتها .
بيتان من الشعر كانا بمثابة شهادة تاريخية تلقي الضوء على مسيرة تلك الشاعرة الأميرة، سليلة الأسرة الحاكمة في العصر الأندلسي، تم تناقلهما وتوثيقهما باسمها عبر التاريخ، بعد أن قامت هذه الشاعرة بتوثيق البيتين بالذهب على ثوبها للتعريف بنفسها على طريقتها الخاصة .
ولادة بنت المستكفي شاعرة أندلسية سليلة بيت الخلافة، هي بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر لدين الله الأموي .
اتهمها البعض بأنها لعوب فاتنة فقد وصفت بالحسن بالإضافة للجرأة في الحديث وفي نظم الشعر، بعض ما كتبته لا يرقى أن يكون قصائد من حيث عدد الأبيات ،لكنه قصيد مكتمل من حيث المعنى.
كونها امرأة لم يمنعها أن تتمتع بالقدرة والجرأة على الهجاء ، تناثرت في كتب التاريخ مقطاعاتهنا وهناك تعاتب وتهجو فيها لم نورد شيئاً منها هنا لعدم لياقة بعض العبارات التي - ربما- كانت مستساغة آنذاك.
يقال إنه يؤخذ على شعرها مأخذ آخر غير الجرأة والصراحة، وهو أنه كان شعر نسائي بامتياز وهذا يسجل لها لا عليها رغم ما تناوله الرواة عن سيرتها .
المقارنة بين الزمن الذي عاشت فيه ولادة بنت المستكفي وبين زمننا الحاضر ،لا ريب تصب من حيث مدى الحرية والجرأة في التعبير لصالح الزمن الحاضر بكل ما فيه من حرية وتطور حضاري وتكنولوجي، لم يكن ليتوفر بأي حال في العصر الأندلسي أو أي عصر سابق آخر، ومع ذلك أكاد أجزم أن حرية التعبير عن النفس بالشعر وبالكتابة، كانت تخترق جدار الألف عام الفاصلة زمنياً بين العصرين لتحسب في صالح ولادة وصالح نساء عصرها .
صحيح أننا قد وصلتنا أسماء كثيرة عن نساء شواعر حفظها لنا التاريخ، إلا أن ظروف كل واحدة منهن هي التي جعلت اسمها يطفو على سطح التاريخ كالخنساء وغيرها، وبالحديث عن هذه الشاعرة الكبيرة تلوح لنا مقولة قديمة أنه عندما قرأت الخنساء شعراً أمام النابغة وأجازها كثير من الشعراء بينما قال الفرزدق في امرأة قالت شعراً"إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها". وهكذا فإن المرأة سعت طوال التاريخ لأن تقشع هذا الغيم المتراكم منذ عقود طويلة حتى ..
هذه مقارنة قد تظلم المرأة في عصر النهضة الذي نعيشه ، أكثر من أي ظلم آخر تم التركيز عليه . المرأة ...الكاتبة , الشاعرة والأديبة تحتاج للدعم لتمارس الحرية في الكتابة، من غير أن تسلط عليها أضواء النقد الجارحة لشخصها لا لقلمها، وضرورة التمييز بين القلم وصاحبته، واعتماد النقد المحايد للكتابة والفكرة والمضمون .
بغض النظر عن تحفظي الشخصي على جرأة ولادة، أو بعض ما نقل على لسانها من أشعار أقل ما يمكن أن توصف فيه أنها أجرأ مما قد تكتبه أنثى من حيث الألفاظ وصراحتها ، إلا أن موضوع الحرية الشخصية والقدرة على تناول المواضيع واختيار ما تراه مناسبا من ألفاظ في زمن يبعدنا عنه ألف سنة ، هو ما لفت النظر لـولادة ولتلك الفترة أيضاً كما أشرت.
أن يترك للقلم العنان ليكتب ما يشاء بغير أن يتعدى على حقوق الغير، لعمري هذه هي الحرية بأم عينها ولا تحتاج سوى لأن نتقبل ما يقوله الآخر، بصرف النظر عن جنسه ذكراً كان أو أنثى. كم من الأقلام تعيش بين ظهرانينا اليوم وتضطر للظهور بمظهر مغاير لما هي عليه في الأصل ؟ كم من المواضيع التي نتحاشى اخوض فيها باعتبارها تندرج في "الممنوع" أو تدخل باب غير اللائق طرحه من مواضيع مراعاة للعادات، أو الالتفاف على الموضوع بمنع الكاتب من تناوله لأنه "مسيء للذوق العام" ؟. هذه أيضا طريقة من الطرق الملتوية للحد من حرية الكتابة ، فلا أحد يملك معايير لما هو مسيء للذوق العام، وهذه حجة تساق رغم انه من المستحيل وضع سقف موحد لما يرضي الذائقة العامة، أو ما هو مسيء لها ما دام الموضوع لا يمس ديانة ولا يتناول أحداً في إساءة مباشرة، إذ هو محض ممارسة حرية كتابية لا سلطة عليها، والتعبير الطليق عن رأي أو مشاعر بغير ان يشعر المبدع بمجموعة من الرقباء تتناول ما هو مكتوب بالتحريف، وتلصق الصفات بكاتبها أو كاتبتها وفق أهواء خاصة بالمحلل لا تعمم في الغالب .
بالعودة لـولادة فلم يوقفها نسب ولا وضع اجتماعي عن ممارسة حرية التعبير بأي لفظ متداول في زمانها، ولم يثنها التقول عليها عن ممارسة حقها بأن تنظم الشعر، وأن تعقد المجالس الشعرية، وتتبادل مع الشعراء الأبيات الشعرية بكل جرأة محققة بذلك أفكاراً ما زالت تراودنا بعودة ازدهار الصالونات الأدبية ،بكل ما فيها من فرصة للنهضة بالواقع الأدبي وعودة قوية للشعر العربي، الذي هو بلا شك وعبر التاريخ الطويل عماد الأدب العربي .
ربما يحتاج الأمر لأكثر من قلم يكتب هنا أو هناك. الأمر يحتاج لمجهود جماعي مشترك بين طرفي المعادلة الكتابية من الجنسين، لأن الكتابة فعل حياة جماعي لا فرق بين كاتب أو كاتبة ، شاعر أو شاعرة، والنظرة يجب أن تكون محايدة بالمطلق والتشجيع لا يخضع لأجندة جندارية، فكم من الأقلام الجيدة التي طمرت بناء على أحكام مسبقة بتهم باطلة تطال الكاتب أو الكاتبة، لأنه مارس نوعا من الحرية في التعبير عن آرائه ووجد من يقف له بالمرصاد، ويصدر حكم إعدام بحق حرفٍ نطق بما لا يشتهي .
بين زمن ولادة وزمن العالم الافتراضي مقارنة تصب في صالح زمن ولادة بلا أدنى شك ، فرغم اتهامها من قبل البعض بالفسوق، لم يثنِها هذا عن الاستمرار في نظم الشعر غزلاً ومدحاً وهجاء. لم تضطر لنظم الشعر باسم مستعار، أو بصورة مغايرة لما تريد هي أن تكون عليه أشعارها، بل نظمته على رؤوس الأشهاد في أمسيات شعرية في مجلسها الذي خصصته لهذه الغاية، حيث تحيد الشخصنة وينتصر الابداع على ما سواه ، كانت بذلك أكثر جرأة من شاعرات عصر النهضة، باتخاذ توقيع لها من حرفها ونظمها وسمت فيه ثيابها وأصبحت الأشهر لأنها عبرت عن مكنون نفسها من غير وجلٍ وبلا خوفٍ من تفسير خاطئ لما تقوم فيه.