الدكتورة : سناء أبو شرار - الأردن
نولد في الأماكن ونكبر بها
نسافر إليها ونعود منها
إلى أن يقتلع الموت جذورنا منها
فالمكان هو المُجسم المادي لأرواحنا...
ضيق الأفق لدى الانسان جعله يعتقد أن العلاقات في حياته لا تكون إلا مع البشر، ويجهل أو يتجاهل أو لا يدرك أنه له علاقة مع كل ما في الكون من حوله من عالم الفضاء إلى عالم البحار، من عالم الجمادات إلى عالم النباتات، من جدران بيته إلى جدران بيت جاره، فكل ما في هذا الكون الذي نحيا به هو شبكة علاقات، الأبسط منها هي العلاقات المرئية التي نراها بين البشر، والقلة القليلة من البشر والمحظوظة التي تشعر بعلاقات تتجاوز الحدود البشرية الضيقة، فيستمع لصوت البحر، ويصغي السمع لحفيف الأشجار، ويدرك أن الحيوانات تمتلك مشاعر ولها حياة اجتماعية وعاطفية وأنها تنظر أحياناً إلى الانسان باستغراب لأنه يتصرف خارج حدود فطرة هذا الكون بأكمله حين يتصرف بأنانية ودون أدنى احترام للمخلوقات الأخرى التي لها حق الحياة على هذه الأرض.
ومن أهم العلاقات غير البشرية هي العلاقة مع المكان، هل المكان الذي تعيش فيه أو تعمل به هو مكان صحي ومريح، هل تحب أن تحيا به، هل ما يحيط به يدعو إلى البهجة أم إلى الاكتئاب وربما الغضب أحياناً؟ هل جدران بيت باكية أو مرحة، هل أبواب جارك صدئة أم ذات لونٍ جميل؟ هل الرصيف في الشارع الذي تسكن به نظيف أم تعلوه الأوساخ ويبدو مهشم ببعض أجزاءه؟لذلك وحين نتساءل عن علاقتنا مع بعضنا البعض لابد أن نتساءل عن علاقتنا مع المكان. هناك أماكن تجلب المرض، وأماكن تُثير الأعصاب، أماكن خانقة وأماكن كئيبة، تماماً مثلنا نحن البشر، فنحن أيضاً سكن لبعضنا البعض، فمنا من هو بيت جاف خرب، ومنا من هو بيت فخم ولكنه بارد وعقيم، ومنا من حو بيت دافئ وسعيد، الحقيقة هي أننا بيوت بعضا البعض، يلجأ لنا الصديق، وتبحث الزوجة عن الأمن مع زوجها، والابناء عن الحنان مع آباءهم، وحين ننسى أننا ذلك الملاذ للآخر لابد أن يختل شيء ما في الوجود، لابد أن ينتشر الخوف والقلق، ويصبح المجتمع هو ذلك الغول الذي ينتظرنا في الخارج وفي الداخل بيتنا الصغير يبدو هش الجدران ضعيف الأبواب عاجز عن حمايتنا. فلنتخيل جميعاً حين تختل هذه الأدوار التي تشكل الأمن الفردي والمجتمعي والوطني لكلٍ منا، وحين ينسحب كل شخص من دوره العاطفي والنفسي لأننا بدأنا نعتقد أن الأمن المادي فقط هو الأمن الحقيقي.
الأماكن هي التي تحتضننا، بل قد تبدو احياناً أكثر حناناً وطمأنينةً من البشر، وقد تبدو سبب لكل شيء سلبي، وقبل أن تشتري بيت أو تستأجره، تجول في ذلك الشارع حيث تريد أن تستقر، أنظر إلى وجوه من يسكنوا به إلى حدائقهم ونوافذهم وسوف تخبرك البيوت بالكثير مما يكتمه أصحاب تلك البيوت، فالأماكن لا تعرف الكذب ولا النفاق، بل تتحول البيوت بعد مدة من حياة أصحابها بها إلى صورة مُجسمة لمشاعرهم وأفكارهم إن كانوا عدائين أو بخلاء، لئام أم كرماء، فحتى الأبواب والنوافذ تقول لك كل شيء عن من يسكن هناك، فأجسادنا تسكن البيوت وأرواحنا تغير أشكال تلك البيوت، لأن الروح أقوى من الجسد، لذلك يكتسي المكان بظلها الصامت وتبوح بكل شيء.
فالصفات السلبية تحمل الطاقة السلبية لمن حولها وللمكان أيضاً، فنحن وحدة واحدة مع هذا الكون، وهناك مثل شعبي قديم السنوات تجعلنا ندرك أنه صحيح عند الحديث عن شخص سلبي: " إذا ذهب إلى البحر سوف يجففه". الأجداد فهموا هذه الأشياء البسيطة وعرفوا أن هناك أشخاص يجلبون القحط، وأنه حتى الأماكن تعاني منهم. لذلك تبدو علاقتنا مع الأماكن بقدر أهمية علاقتنا مع الآخرين فهناك بيوت لابد من هجرانها، وبيوت لابد من البقاء بها وأخرى لابد من هدمها وبناء غيرها وكذلك نحن.
لن يتخيل أي منا أن المكان الذي يعيش فيه ويعمل فيه قد يكون السبب في مرضه، ولكن هذا واقع وإن لم يكن بنسب عالية او يلاحظها الجميع، فنحن لم نعتاد على البحث عن أسباب مرضنا، لأننا في عالمنا المعاصر نتقبل المرض كأنه جزء من الحياة، ونعتقد أن من يعيش حياته بشكل صحي هو انسان نادر. نغرق في الجزء الظاهري من الحياة ولا ندرك أن ما خفي منها أوسع وأعمق وأننا لسنا سوى جزء صغير من الكون العظيم، وما يجعلنا نتواصل مع هذا الكون هو فهمنا لذواتنا وقبولنا بأننا لسنا بداية الكون ولا نهايته. وأن المكان يتحول مع مرور السنوات إلى مُجسم مادي لأرواحنا، ينعكس عليه كل ما بداخلنا من خفايا، من حزن أو سرور، من طيبة أو حقد، المكان لا يخدع ولا يجامل لذلك قد يكون سبب رئيسي للمرض أو للصحة النفسية أو الجسدية.