الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا
الفطرة من الجذر الثلاثي ( ف ط ر ) ، وبها نبدأ ، وهي فِـعْـلـة كالجِلسة والكِسْرة والرِّكْـيـة ، عرّفها علماؤنا بأنها الجِـبِلَّــة والطبع المتهيّئ لقبول الدين ( تعريفات سيد شريف الجرجاني ص105 ، والنهاية في غريب الحديث والأثـر للجزري 3\ 457 ) ، فلو ترك المولود عليها لاستمرَّ على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها ، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفـة من آفات البشر والتقليد ، ثم تمثل بالأولاد من الملل الأخرى ، باتباعهم لفكر آبائهم والتوجّـه نحو تقليدهم دينيّاً ميلاً عن مقتضى الفطرة السليمة .
والفطرة السليمة تُـقِـرُّ بأن أي مولود يولد معرفة الله ،كلّ واحد يقرّ بأن له صانعا ، حتى لو سمَّاهُ بغير اسمه أو عَبَدَ معه إلـهاً آخر ، ولذلك تجد أن الفطرة تنبثق في بعض اللحظات حتى لو طمستها الأيام والتربية السيئة ...
لنتأمّـلْ طائرة في السماء وقد تعطـَّل أحد محركاتها ، جميع الركاب يجأرون إلى الخالق الفاطر ، كلٌّ بلغته :
يا اللـــــه
يا خُـــــدا \ خُـديــــــه
O , my God !!!
آشـــتيرن .......................الخ .
المؤمن والكافر على حد سواء ، كلهم يتعرّف على الله بلحظة الضعف والأزمة والشّـدّة ، الجميع معترفون بالله بأسماء مختلفة ، علموا أن لهم ربّـاً فلجؤوا إليه في لحظات الشدة حين خانتهم جميع ممتلكاتهم وآلهتهم المزعومة ، وتقطعت بهم الأسباب والسبل وعرفوا أن لا أحد يقدر أن يفرِّج عنهم إلا هو فاستغاثــوا به !!!
لذلك ترى الإمام جعفرا الصادق رحمه الله حين سئل عن الله قال للسائل :
هل ركبْتَ البحر مرة ؟ وهل هاجت بكم الريح وانقطعت الآمال من الربّــا ن وجميع الملاحين والأسباب المتاحـة ؟ وهل وهل ..... وهل أحسسْتّ بأنَّ هناك مَـنْ إذا شاء نجَّـاك ؟؟؟ قال السائل : نعم ، قال جعفر : فذلك هو الله .
ونتلو هنا قوله تعالى : (( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك وجريْنَ بهم بريحٍ طيبة وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصف وجاءهم الموجُ من كلِّ مكان ، وظنوا أنهم أُحيطَ بهم دعوا الله مخلصين له الدِّين لئنْ أنجيتَـنـا من هذه لنكونن من الشاكرين )) سورة يونس \ 22 .
على جانبٍ آخر من الجذر ( ف ط ر ) يطالعنا الحديث الشريف : (( خمسٌ من الفِطْـرة : الختان وقص الأظافر و ......)) رواه الجماعة(1) . وفسَّرها بعض العلماء بأنها من السنّة ، وإنما المراد بها سنن الأنبياء وما فُـطِـر عليه الناس في أصل جِبِلَّـتهم ، فهي إذن خمس خصال ، خمس سجايا راسخة في النفس البشرية منذ أن خلقها الله الفاطر، ولو تُرِكت دون مؤثّـراتٍ سلبية لبقيت عليها ، أما وقد وجدت هذه التاثيرات فاقتضى أن يذكرنا بها رسول الله وهي : الإستحداد والختان وقص الشارب ونتف الابط وتقليم الأظافر . ولأجل هذا كان الإمام عليّ رضي الله عنه ، إذا أراد أن يعظم اليمين فيقسم : والذي بَـرَأ النسمة ، أو " وجبار القلوب على فِطْراتها " أي على أصل خلقتها ، جمع فِـطَـر ، وفِـطَـر جمع فطرة .
وبمحاكمة سريعة نستطيع إيجاز فهمنا للفطرة بأنها السجية والطبع النقي السليم الباقي على أصل الخلقة ، على المِـلَّـة السليمة .
الفطرة إذن ، عـرَّفها بعض العلماء أنها غاية فقالوا ( هي دين الحق) ، وعرَّفها بعضهم أنها وسيلة لغاية فقالوا ( هي الصَِلة المتهيّئة لدين الحق) وقال بعضهم هي ميثاق المعرفة الفطرية والجبلّـة الأولـى .
وبسهولة أيضا يمكننا أن ندرك أن لهذه الفطرة صفاتٍ جليّـة أبرزهـــا :
الصدق الكامل ، وهي صفة الفطرة التي لا تفارقهـا أبدا .
الثبات .
قد تختفي لكنها تظهر عند الأزمات والشدائد والضعف المطبق ، ناطقة بالحق معلنة أن الدين عند الله هو التوحيد ، من لدن آدم الى يوم الساعة .
لا تتبدّل ، حتى لو حُرفت أو طُمِستْ إلىفترة من الزمن . قال تعالى : ((لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القَيِّـم)) سورة الروم\30 .
وببساطة نقول ان الضعف والصدق وجهان متلازمان للفطرة ، وإنما يحصل الانحراف والتجبر وطمس الفطرة حين يظن المرءُ أنه صار غنيّـا قويّـاً : (( كلا إنَّ الإنسانَ ليطغـى أن رآهُ استغنى )) سورة العلق \6 – 7 والخلاصــة :
الفطرة : معرفة بالله الواحد الخالق ( الفاطر) ، موجودة بالنفس البشرية ، بل بثَّـهـا الله في نفوس بني آدم وهو في عالم الذَّرِّ على اختلافهم لغاتٍ وأجناسا وعرقا ...قال تعالى : (( وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربِّكم ؟ قالوا : بلــى )) الأعراف \22 . هذه المعرفة ثابتة لا تمحى ولا تزول حتى وإن تغيرت الأزمان والأجيال والبيئات والألسن والحضارات والأجناس و ..... إنهــا دليل على وجود الخالق الفاطر العظيم ، ولذلك قال بعض السلف :
إنَّ وجود الفاطـرأمر كامن في كلِّ إنسان حتى في الملحد ، ولا حاجة للاستدلال عليه !
يقول الفيلسوف الفرنسي" رينان" في (كتاب الأديان) : من الممكن أن ينمحي كلُّ شيء وأن تنمحـي حرية استعمال العقل والعلم والصناعة و .... ولكن يستحيل أن ينمحي الدِّين .
نعم يستحيل ، وإن ما يفعله بعض القوم بتعميد أبنائهم في ما ءٍ يسمونه" معموديّـة " لتطهيرهم وصبغهم بدينهم إنما هو مخالف للفطرة والواقع المنطقي الصحيح ، واقرأوا معي : (( صِـبْـغَـة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)) سورة البقرة \ 138 ، ولا نقول هذا تنكرا لشريعة أحد وتعصبا للإسلام إنما من باب المنطق فما كان صحيحا فهو فِطري ولا يحتاج إلى تعميد وترسيخ ، فالراسخ لا يُرسَـخ والمؤكد لا يؤكَّـد !!! يقول صاحب الكشاف"جار الله الزمخشري" : أمر المسلمون بأن يقولوا آمنا بالله الذي صبغنا بصبغة الحق والفطرة وطهّرنا بالإيمان ومِلَّــة ابراهيم ( 2) . وفي تفسير ابن كثير الحوراني الدمشقي رحمه الله : صبغة الله هي ملّـة ابراهيم وهي فطرة الله بدليل ما قبلها ، قوله تعالى (( فإنْ آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا )) (3) .
أما في المفردات الرمضانية فان ( ف ط ر ) تنحو منحى آخر فالافطار أول ما يشق المعدة من الطعام ، فكما نعلم فالفطر هو الانشاء والخلق أول مرة على غير مثال ، هذا والله أعلم والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وىله وصحبه وسلم .
-------------------------------------
(1)جعلها الله سننا للأنبياء جميعا ، شعائر يطبقونها، وتطبقهـا أممهم ليُعرَفوا بها ويتميزوا عن غيرهم ، فهي لهم هويّـة الحق والتوحيد بعيدا عن الزيغ ، ولذلك أسماها الشارع الحكيم سنن الفطـرة .
(2) الكشاف للزمخشري 1\316
(3)تفسير ابن كثير 1 \ 450 .