د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن
أحدهما: مذهب الإمام الزمخشري وموافقيه (الجمهور) أن الفاء الفصيحة "لا تقع إلا في كلام بليغ"[4] هي الفاء الدالة على محذوف قبلها في الكلام، فإن كان المحذوف شرطًا، فالفاء فاء الجواب، ومدخولها جملة الجواب المسببة عن جملة الشرط المقدَّرة مع الأداة قبلها؛ "فتكون الفاء إذ ذاك رابطةً لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة هي وحرف الشرط"[5].
قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، ففي الآية ثلاث فاءات: الفاء الأولى للسببيَّة لا غير؛ لأن الظلم سبب التوبة، والثانية للتعقيبِ، والمعنى: فتوبوا، فأتبعوا التوبة القتل تتمةً لتوبتكم، والثالثة هي الفاء الفصيحة التي أفصحت عن محذوف، وله وجهان:
وقوله جل جلاله: ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ [البقرة: 60]، فالفاء في (فانفجرت) أفصحت عن جملة شرطية محذوفة مع الأداة، والتقدير: فإن ضربت فقد انفجرت منه، أو أفصحت عن محذوفات في الآية هي سبب لما بعدها، والتقدير: فضربَ موسى بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار، عن السبب الذي هو الضرب، وهذا الفعل المحذوف معطوف على (فقلنا)، وهذا الحذف لـ(فضرب) دالٌّ على كمال سرعة الامتثال، حتى إن أثره - وهو الانفجار - لم يتأخَّر عن الأمر[7].
والمذهب الثاني: أن الفاء الفصيحة هي: "الفاء العاطفة إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفًا على المذكور قبلها؛ فيتعيَّن تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفًا عليه، وهذه طريقة السكَّاكي فيها، وهي المثلى"[9]، فقد قال: "وانظر إلى الفاء التي تُسمَّى: فاء فصيحة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 54]، كيف أفادت (فامتثلتم فتاب عليكم)، وفي قوله: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ ﴾ [البقرة: 60] مفيدة (فضرب فانفجرت)"[10].
وعلى هذا المذهب أبو البقاء الكفوي الذي قرَّر أنه: "لا تسمَّى الفاء فصيحة إن لم يُحذَفِ المعطوف عليه، بل إن كان سببًا للمعطوف تُسمَّى: فاء التسبيب، وإلا تُسمَّى: فاءَ التعقيب، وإن كان محذوفًا ولم يكن سبًبا لا تُسمَّى فصيحة أيضًا، بل تُسمَّى: تفريعيَّة...، وإن كان المعطوف شرطًا لا تُسمَّى فصيحةً أيضًا، بل تُسمَّى: جزائية، سواء حذف المعطوف عليه أم لم يحذف"[12].
قوله جلَّ جلاله: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فالفاء في ﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ [البقرة: 196] تُفصِحُ عن محذوف، يتوقَّف عليه استقامة الكلام، وهو سببٌ للمذكور بعدها، والتقدير: فحَلَق رأسَه فعليه فدية...
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾[المائدة: 19]، فالفاء في ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ [المائدة: 19] مُفْصِحةٌ عن نهي محذوفٍ، ما بعدها علةٌ له، والتقديرُ: لا تعتذروا فقد جاءكم بشيرٌ للمؤمنين، ونذير للكافرين؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحَذف النهي (لا تعتذروا)، واكتفى بسبب النهي عن الاعتذار[13].
وقوله عز وجل: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾ [الأعراف: 160]، فالفاء في (فانبجَسَت) أفصحت عن جملة شرطيَّة محذوفة مع الأداة، والتقدير: فإن ضربت فقد انبجست منه، أو أفصَحَت عن محذوفاتٍ في الآية، هي علَّة لما بعدها، والتقدير: فضرب موسى بعصاه الحجر فانبَجَسَتْ منه اثنتا عشرة عينًا، فاكتفى بالمسبَّب الذي هو الانبجاس، عن السبب الذي هو الضرب، وهذا الفعل المحذوف معطوف على (أوحينا)، وهذا الحذف لـ(فضرب) دالٌّ على سرعة الامتثال، حتى إن أثره - وهو الانبجاس - لم يتأخَّر عن الأمر[15].
وقوله جل جلاله: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ﴾ [الفرقان: 17 - 19]، فالفاء في ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُون ﴾ [الفرقان: 19] فصيحةٌ، أفصحت عن محذوفات في الآية بعد تهيئة ما يقتضيها إفصاحًا رائعًا، ففي الكلام حذف فعل قول يدل عليه المقام، يليه شرط أفصحت عنه الفاء التي تفيد معنى المفاجأة، والتقديرُ: قلنا أو قال تعالى للكفار حينئذٍ: إن قلتم: هؤلاء آلهتنا، فقد كذبوكم في قولكم: إنهم آلهة، أو: إن قلتم: هؤلاء أضلونا، فقد كذبكم - أيها الكفرة - معبوداتُكم في قولكم: إنهم أضلوكم.
وقوله عز وجل: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، فالفاء في (فانفلق) أفصَحتْ عن محذوفات في الآية، والتقدير: فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق، فاكتفَى بالمسبَّب الذي هو الانفلاق، عن السبب الذي هو الضرب، وهذا الفعل المحذوف معطوف على (أوحينا)، وهذا الحذف لـ(فضرب) دالٌّ على سرعة الامتثال، حتى إن أثره - وهو الانفلاق - لم يتأخَّر عن الأمر[18].
وقوله جل جلاله: ﴿ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ ﴾ [الصافات: 167 - 170]، فالفاء في ﴿ فَكَفَرُوا بِهِ ﴾ [الصافات: 170] أفصحت عن محذوفات في الآية، والتقدير: فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالذِّكر فكفروا به، فاكتفى بالمسبب الذي هو الكفر، عن السبب الذي هو مجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالذِّكر.
إن صحة الكلام واستقامة المعنى اقتضتا هذا المُقدَّر في الكلام قبل الفاء التي أنبأت عنه، وهذا ما يسمى عند الأصوليين بـ(دلالة الاقتضاء، أو: لحن الخطاب)، الذي يَعْنُونَ به: دلالة اللفظ على ما يتوقف عليه صدق المتكلم، ومن أمثلتهم لها: قول الله عز وجل: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ﴾ [النمل: 35، 36]، فتقديره: فأرسلت رسولًا، فلما جاء سليمان؛ لأن مجيء الرسول فرعٌ عن إرسالها.