وكالة البيارق الإعلامية
من ضمن المشاكل التي يواجهها مرضى الاكتئاب أن من حولهم لا يستطيعون أن يفهموا ما يعني أن تكون مكتئبا، لا يستطيعون أن يضعوا أنفسهم في مكان المكتئب ويتصوروا ما يمكن أن يعانيه، والحق أن هذه المشكلة ليست خاصة بالاكتئاب بل تشمل الأمراض النفسية جميعها لكنها أوضح في الاكتئاب لأنه مرض معدلات انتشاره مرتفعة، وجزء من المشكلة مردّه أننا جميعا عانينا ونعاني من الحزن ولذا نماثل بين الحزن الذي خبرناه وبين الاكتئاب الذي يصفه لنا المكتئب، والمماثلة هنا ظالمة جدا لأنها تميل إلى تقزيم المعاناة الحقيقية التي يعاني منها المكتئب.
يمكن أن نتصور الاكتئاب مثل خط متدرج يمثل الحزن طرفه الأدنى، وحين نتقدم صعودا في الدرجة يأتي الاكتئاب الخفيف ثم الاكتئاب متوسط الشدة ثم ننتهي بالاكتئاب الجسيم، وهذا التصوُّر يجعل من الاكتئاب مختلفا عن الحزن في شدته فحسب؛ فلو زاد الحزن درجة أو درجتين ندخل في الاكتئاب، والحق أن هذا التصوُّر يشكل جزءا مما يمكن أن يُعرِّف به طبيبٌ نفسي الاكتئابَ؛ فالاكتئاب حزنٌ زادت شدّته وطالت مدّته، ومع هذا فإن التعريف بصيغته هذه لا يوفّي الاكتئاب حقه ولا يجعلنا نفهم طبيعة الاكتئاب، وربما يكون من الأصح أن نقول إنه كلما ارتفعت درجة الحزن تتوقف مشابهة الاكتئاب مع طبيعة الحزن المفهوم لدى الجميع ويتحول إلى طبيعة أخرى، أي أن زيادة الشدة تحدث تغييرًا في نوع الظاهرة؛ فالحزن يمكن في العادة أن يُرى على أنه شيء طارئ على الأنا، شيء على سطح الأنا، ويمكن بالتالي تفريقه عن الأنا مثلما نفرّق بيننا وبين الألم الذي يصيبنا فنقول لديّ ألم، فالألم ليس أنا إنما عارض عليّ، وكذلك الحزن عارض وليس هو الأنا؛ أما كلما ذهبنا أعلى في الدرجة فإننا لا نستطيع بعدُ أن نفرّق بين الأنا وبين الاكتئاب، ونحن أحيانا نشبّه الاكتئاب للتبسيط فنقول إنه كمن يلبس نظارة سوداء فيتلوّن العالم ويتبدّل وينصبِغ بالسواد، ولكنّ الاكتئاب لا يصبغ بالسواد والسلبية العالمَ الخارجي فحسب بل يلوّن الأنا ذاتها ويبدّلها ويغيرها؛ فتأثيره شامل للعالم الداخلي كذلك ويلوّن مفردات الأنا والنفس كلها، فهو يقلل التركيز ويُضعف تسجيل الأحداث في الذاكرة، وهو يبدد الدافعية ويُنقص طاقة الجسم، ويُقلل من ثقة المرء بنفسه ويُضعف اتخاذ القرارات؛ فالعمليات الذهنية كلها تنحدر وتضعف وتقل.
إن هذه المشكلة في صعوبة تصوّر الاكتئاب لمن لم يعشْه أو يمر به ليست مشكلة نظرية أو تتعلق بتعريف الاكتئاب فحسب بل هي مشكلة عملية أيضا تطال التدخلات العلاجية؛ فالمقرّبون من المكتئب يقدمون نصائح تحاول أن تصحح الحزن الذي يعرفون والذي مروا به حتمًا في حياتهم، وهذا يفاقم في أحيان كثيرة الاكتئاب ويؤخر العلاج. إن كل النصائح التي يمكن أن تقدَّم لشخص حزين يمكن أن تقدم لشخص مكتئب باكتئاب خفيف ويمكن أن نستمر في تقديم النصائح المفيدة مثل هذه حتى تحوِّل زيادةُ الشدة الاكتئابَ من كونه حزنا مفهوما ومشهورا ومعاشا من قِبل جميع الناس إلى طبيعة مختلفة، ظاهرة مختلفة تمامًا عن الحزن، وحينها قد تكون هذه النصائح عديمة الفائدة، والحق أن النصائح المفيدة للحزن والاكتئاب الخفيف هي التي طوَّرتها نظريات العلاج النفسي للتدخلات المعرفية والسلوكية، فحين تُقدَّم نصيحة أن يخرج الشخص من البيت ولا يجلس في غرفته، وأن يذهب مع أصدقائه، أو يغير من الجو فيسافر، أو يمارس أنشطة مختلفة، أو يتمشى على الشاطئ، أو يدردش مع صديق مقرب أو مع شريك حياته، كل هذه تقع في لبّ العلاج السلوكي للاكتئاب بل ربما تكون الأصل الذي انبنت عليه التدخلات النفسية الأخرى في العلاج، لكن هذه النصائح لن تفيد كثيرا حين يتقدم الاكتئاب في الشدة؛ فالمرء حينها يفقد طبيعته، يفقد نفسه، يتوقف الاكتئاب من أن يكون أمرا عارضا ملتصقا بسطح الأنا، أما حين يذهب الاكتئاب أعمق فأعمق فيصل إلى شدته الجسيمة فإن المكتئب قد يدخل في الذُهان فيصبح منفصلا عن الواقع من حوله وتنتابه الهلاوس والأوهام وتطارده الأفكار السلبية الخطيرة من قبيل فكرة الانتحار.
لذا فكما نقدّم نصائحنا للذي يسعل خفيفا ونخبره أن يشرب كذا وكذا ونتوقف عن نصائحنا حين يستمر في السعال ويتأذى لأننا نشعر أنه حينها يحتاج إلى مختص فكذلك المكتئب علينا أن نتوقف عن نصائحنا العامة له حين نرى أن حزنه أقوى شدة مما يمكن أن نتصوَّر، ومن المفيد هنا القول إن بروتوكولات علاج الاكتئاب المتبعة عالميا لا تقفز مباشرة إلى العلاج بالأدوية بل تستمر في التدخلات النفسية حتى يصل الاكتئاب شدة يرى فيها الطبيب أنه لا بد من تدخل دوائي، أو يرى أنه لا بد من تنويم المكتئب في مستشفى نفسي حفاظا على نفسه أو لأنه يحتاج إلى تدخلات علاجية أخرى بجانب الأدوية.