جلست أنا وهو في مقهى صغير على أطراف مدينة الرياض ، نظر لي والدموع تترقرق في عينيه ثم قال بصوت هامس
: أستاذ محمد عاوز أوصيك وصية بس بالله عليك تنفذها ، ثم أردف وهو يشيح بوجهه ناحية حي النهضة:
أمانه عليك لو مُت تبعت جثتي مصر عشان اندفن هناك مش عاوز اندفن في الغربة بعيد عن اهلي .
نظرت له في ذعر مفاجئ ، تدافعت الكلمات على لساني ما بين كلمة أبيحة تريد أن تقفز في وجهه، وأخرى مواسية تختبئ في سقف الحلق ،وبتأثر مبالغ فيه سألته
- إنت قررت تموت خلاص ؟
لم يهتم بسؤالي الساخر بل سالت الدموع من عينيه كشلالات كارفيجويلا ببوركينا فاسو ثم إرتمى فجأة في أحضاني حتى كدت انقلب على ظهري .
نظرت لقفاة العريض وكلي رغبة أن أخبطه كف عشان يفوق ولكني آثرت لعب دور أب الإعتراف، ربت على كتفيه بحنان مبالغ فيه قائلا: لا عليك ايها العبد الخاطي إعترف بمصايبك السوده وليغفر لك الرب إنه غفور رحيم ، قل لي يا ولدي : العربية التويوتا اللي اشتريتها مؤخراً دي جبت فلوسها منين، ومين المزه اللي كانت راكبه جنبك امبارح وكنت ماسك .....؟
إنتفض واقفاً وقد زالت عنه أعراض الموت المفاجئ :أستاذ محمد من فضلك الموضوع ده مفهوش هزار
تركته يهذي ويعترض وسرحت مع أفكاري وتساؤلاتي عن رغبة وحرص أولئك المغتربين الذي يعيشون عمراً طويلاً في بلاد الله لكنهم يحرصون علي أن يُدفنوا في بلادهم
- هل هي الرغبة في الحصول على دعوات زوار القبور من أهلهم وذويهم؟
- هل هو نوع من الوطنية ،ولكن أي وطنية بعد الموت؟
- هل هو إعتذار متأخر لوطن تركناه و هجرناه يوماً فقررنا أن نعود إليه بعد موتنا لنضع وجوهنا في ترابه طالبين العفو والصفح؟
- لماذا نهرب من أوطاننا أحياء ونحرص كل الحرص على العودة لها أمواتا ،هل تحولت الأوطان إلى مقبرة للمغتربين ليس إلا ؟
أفقت علي سؤاله : قلت ايه يا أبو عبد الله ؟
: ماشي حاضر ابشر يا غالي موت إنت بس وسيب الباقي عليا.
تردد قبل أن يسألني : طب لو عملتها انت قبلي وخلعت توصيني بحاجة ؟
اعتدلت وانا ارشف أخر قطرة من الشاي الذي أصبح باردا: أوصيك الله يكرمك يا شيخ تدفني في أي حته ان شالله حتى جنب الشجرة اللي ورا القهوة دي .