يُعتبر اليوم أهم تحدّ مطروح على التونسيين جميعا من سياسيين ومثقفين ومفكرين وعلماء وفلاسفة هو تحقيق "التنمية العادلة" وإذا كان الهدف الأساس من التنمية عامة هو سعادة البشر وتلبية حاجاتهم، والوصول بهم إلى درجة ملائمة من التطور وتعميق إنسانيتهم، فإن التنمية العادلة هدفها إسعاد جميع البشر كمواطنين متساوين في الحقوق رجالا ونساءً من الريف ومن المدن من المناطق الداخلية ومن المناطق الساحلية، فالتنمية العادلة تقوم من أجل البشر وبالبشر أنفسهم الذين هم أهم وسائل تحقيقها.
و اليوم وحيث انتقل الإسلاميون من موقع المدافع السلبي إلى موقع الفاعل الإيجابي فقد وجدوا أنفسهم أمام تحدّ كبير ألا وهو الإجابة عن الأسئلة الحقيقية والواقعية ومن أهمّها موضوع "التنمية العادلة".
ما هو تعريف التنمية وما المقصود بالتنمية العادلة؟ وما هو دور المرأة وموقعها في عملية التنمية؟ هل سنتعامل مع الموضوع بنفس معايير ومقاييس برامج الأمم المتحدة أم ستكون هناك مضامين ومفاهيم جديدة؟
جميع هذه الأسئلة تطرح نفسها اليوم بجدية وبصفة ملحة لأنّ الشعب له قائمة إستحقاقات ومطالب والتنمية العادلة تتصدّر القائمة.
لكن التنمية المطلوبة اليوم لن تكون بمقاييس ومعايير "الآخر"(المستعمر أو الأجنبي) من خلال برامج الأمم المتحدة وإنّما بمعايير جديدة يساهم أصحاب المرجعية الإسلامية في تحديد محتوياتها ومفاهيمها. فالعديد من المصطلحات المطروحة اليوم على مجتمعاتنا في إطار العولمة وتوحيد المفاهيم على المتحركين في الحقل الإسلامي إعادة النظر فيها وصياغتها بشكل جديد وإعطائها مضامين تتماشى مع مرجعيتهم الفكرية وثقافتهم وهويتهم فالهوية ليست مجرّد جملة أو فقرة نضيفها للدستور وإنما هي مشروع متكامل ومتناسق.وهنا يمكن أن نتعرّض لبعض مكوّنات المجتمع التي لها علاقة بالثقافة والدين وتلعب دورا في التنمية الإجتماعية ولا يمكن معالجتها بنفس "مفاهيم العولمة" فمؤسسة الأسرة بالنسبة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية تمثل العمود الفقري للمجتمع فهي تنتج الأجيال فتُؤثّر وتتأثر تفعَلْ وتتفاعَل ولهذا الإهتمام بالأسرة لا يمكن أن يأخذ نفس الترتيب الذي أعطي له في برنامج الأمم المتحدة فبالنسبة لمجتمعاتنا النامية أو المتخلّفة-كما تصنّف داخل برامج الأمم المتحدة- يكون في أولوية برامج التنمية البشرية بينما لا يكون للأسرة نفس القيمة والدور في تنمية مجتمعات أخرى ذات ثقافات وهويات مختلفة، كذلك مؤسسة الزكاة التي لعبت دورا مهما في عملية إعادة توزيع الثروة بين البشر فالمفروض أنّ الدولة في إطار القيام بدورها في التنمية هي التي تجمع الزكاة ثم توزّعها بشكل عادل فتحقق العادلة. كذلك مؤسسة الأوقاف والأحباس والجمعيات الخيرية... التي مثلت تاريخيا شكلا من أشكال التنمية الإجتماعية ثمّ الإقتصادية فتراثنا وهويتنا يجب أن تكون حاضرة في صياغة برامجنا التنموية.
إذن الحديث عن التنمية العادلة تفترض مشاركة جميع مكونات المجتمع في هذه العملية كمتلقّين وفاعلين في نفس الوقت فالتنمية العادلة هي بالأساس عملية أفقية يشترك فيها جميع المواطنين. فالتنمية الإقتصادية لا يمكن أن تتحقق بدون تنمية بشرية وإدارية وإجتماعية فبدون طاقات وكوادر ومجتمع سليم من الأمراض والآفات بدون معرفة وعلم لن تتحقق التنمية الشاملة ولا العادلة.
ولهذا من الضروري تفعيل كل طاقات المجتمع نساءً ورجالاً من المدن ومن الأرياف من أصحاب الشهادات والكوادر العليا ومن المهمّشين وعمّال السواعد حتى نتشارك جميعنا بشكل أفقي في تحقيق رقي البشر وإسعاد كلّ فئات المجتمع.
كيف يمكن للمرأة اليوم أن تساهم في عملية صنع القرار السياسي المتعلّق بعملية التنمية فتكون شريكا فاعلا وحقيقيا.
إن طرح هذا السؤال يحيلنا على عدد من الأسئلة الثانوية:
من هو هذا الفرد المشارك أو صاحب القرار(المرأة) وعلاقته بالآخر وعلاقته بذاته
كيف يمكن للمرأة أن تساهم بالمشاركة الفاعلة في صنع القرار.
أو يمكن طرح السؤال بشكل آخر :ما هي العوامل المساعدة التي تمكّن المرأة من المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتنمية؟
العوامل الذاتية
-التكوين والمعرفة بالأهداف الإستراتيجية والمرحلية لصانعي القرار وهذا من خلال الإهتمام بالشأن العام الإجتماعي والسياسي.
-الكفاءة والقدرة على إبداء الرأي والإقناع
-إكتساب بعض الصفاة المساعدة: كالجرأة..وطلاقة اللسان..والفطنة والذكاء وسرعة البديهة.
العوامل الخارجية
-الإرادة السياسية : أتصورّ أن الإرادة السياسية موجودة حتى وإن كانت متذبذبة وفي بعض الأحيان مترددة لكنها موجودة في القوانين والتشريعات السابقة وهذا يعتبر في حد ذاته إنجاز وشيء إيجابي وعلى المرأة أن تعمل على الحفاظ عليه والقيام بعملية بناء ومواصلة.
وبالطبع هذا يتطلب القيام بعملية تفكير جماعي تتمثل في" تأمّل في الذات" أو تقييم الطاقات- ثم المرور إلى عملية تنمية الذات وصياغة النماذج النسائية التي تفرزها عملية "التنمية البشرية العادلة" وهذا يتطلّب أولا قبل كل شيء إنتاج معايير وقيم جديدة لها مضامين تتماشى مع المرجعيات الفكرية والمضامين الفلسفية.
وهنا يأتي دور مكونات المجتمع المدني من جمعيات ونوادي ومنتديات حقوقية وفكرية وثقافية وخيرية
لتكون الأوعية أو الأطر"للتفكير الجماعي" فتتشكّل فيها الأفكار وتنتج داخلها ومن خلالها المقاييس والمعايير التي تعتمد في تقييم الأفراد والمجموعات لتحقيق التنمية البشرية والإجتماعية بشكل عادل ومتساو.
كما أن الجمعيات النسائية ذات الخلفية الإسلامية التي تأسست خاصة بعد الثورة وهي عديدة ومتنوّعة الأهداف والمهام ومن خلال تجربتها الميدانية في معاينة أوضاع المرأة التونسية في مختلف المناطق .يمكن أن تكون نواة "لحركة نسوية إسلامية" ترتقي إلى مرتبة منظور نسوي إسلامي وإنساني جدير بالمرحلة الراهنة وبالمرحلة المقبلة لها أسس فكرية ومضامين فلسفية تعتمد على مرجعية إسلامية فتقوم بعملية إنتاج معرفي وفكري له منهج هادئ في مقاربة قضايا المجتمع اليوم وغدا ويساهم في نهضة الأمة وتقدّمها من خلال برامج لتنمية البشر وإسعادهم بشكل عادل وليس مُهين.