منذ الطفولة، فى الأربعينيات من القرن الماضى، لم أنطق كلمة صاحب الجلالة الملك أو صاحب المعالى الباشا أو البيه، ورثت عن أبى وأمى كراهية الألقاب التركية، يستخدمها العبيد والجوارى والأجراء فى مخاطبة الأسياد، أما جدتى الفلاحة «مبروكة» فلم تكن جارية ولا أجيرة لزوجها أو أبيها، كان رأسها برأس أكبر رجل فى البلد، منهم زوجها، جدى «السعداوى» الذى مات قبل أن أولد، كانت تكرهه كالموت، تحلم كل ليلة بأنه مات ضربا من أصحاب المعالى، كما كان يضرب زوجاته القديمات والجديدات، إلا هى، زوجته الأخيرة، تزوجها طفلة فى العاشرة من عمرها، مات وهى فتاة عذراء فى العشرين، كان يكبرها بخمسين عاما ويدللها بالضرب المباح فى الشرع، لا يسبب عاهة لها أو فقدان عين أو ذراع، قالت لى، إنها بعد موته، تحممت وغسلت جسدها وشعرها بالماء المغلى والفنيك والجاز، أطلقت زغرودة وصلت إلى آلهة السماء، وأقسمت بأغلظ الأيمان ألا تقرب الرجال حتى تموت، ليس كرهاً فى الرجل الذى لم تعرفه، ولكن حبا فى الحياة التى لم تعشها.
كانت جدتى امرأة عظيمة قادت أهل قريتها ضد العمدة والملك والإنجليز، لم يذكرها التاريخ مثل أصحاب الجلالة أو أصحاب المعالى، الذين تعاونوا مع الاستعمار ونهبوا أموال البلد على مدى القرون والعقود.
لم تكن أمى «زينب» أقل عظمة من جدتى «مبروكة» بل كانت أكثر ثقافة، إلى حد أنها لم تحلم أبدا بالزواج، بل بجائزة نوبل فى العلوم مثل مدام كورى، وكان من الطبيعى أن أهدى كتابى الأول إلى أمى، نشر الكتاب عام ١٩٥٥ بالإهداء «إلى زينب شكرى، المرأة العظيمة التى عاشت وماتت من أجلى دون أن أحمل اسمها، أمى»، حدث ذلك القرن الماضى منذ ستين عاما، ولم يقدمنى أحد للمحاكمة بتهمة الزندقة.
بالطبع لابد من تشجيع الملوك والحكام على إنصاف النساء، وإن كان مجرد دعاية لديمقراطية زائفة، أو لمجالس نيابية تنوب عن الملك وليس عن الشعب، لكن لابد من الوعى بالغواية الملوكية اللغوية، وكشف التناقض بين تقديس السيدة أم جلالته، وتحقير النساء، (نصف الشعب فى بلده)، بل إهانة الشعب كله بالتعاون مع الاستعمار الأجنبى ونهب الأموال، وإجهاض الثورات العربية (منها الثورة المصرية والتونسية وغيرهما)، وتمويل التيارات الدينية التى تعتبر وجه المرأة عورة، يجب أن يغطى بالنقاب أو بالحجاب حسب أوامر الأسلاف.
هذا التناقض الصارخ بين تمجيد الأم نظريا واحتقار النساء عملياً، وحرمان الأمهات وأطفالهن من أبسط الحقوق الإنسانية، (التى تنادى بها كل الثورات الشعبية «الكرامة الحرية العدالة»)، كيف نعاقب ملايين الأطفال الأبرياء فى بلادنا بسبب جريمة الأب الذى يغتصب الأم ثم يهرب؟ كيف يحرم هؤلاء الأطفال من الكرامة والشرف والعدل بينهم وغيرهم من الأطفال؟
هل لأن هؤلاء الأطفال وأمهاتهم ليس لهم حزب من الأحزاب القوية الثرية؟ أكتب هذا المقال اليوم عن قضايا اجتماعية وأخلاقية مهمة، تبدو للبعض ثانوية تافهة فى سعار الحمى السياسية الانتخابية، لكن السياسة الحقيقية النزيهة هى التى تهتم بمشاكل الشعب من النساء والأطفال والفقراء، السياسة الحقة النظيفة ليست حناجر فى الانتخابات وصراعاً على كرسى الرئاسة قبل تغيير القوانين والدستور والعقد الاجتماعى الجديد بعد الثورة، السياسة النزيهة هى توفير الشرف والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية الاقتصادية الأخلاقية الثقافية، لجميع المواطنين، النساء والرجال، المسلمين وغير المسلمين، وجميع الأطفال الشرعيين وغير الشرعيين، هذه العدالة الحقيقية والسياسة الحقة، التى لا يتحدث عنها أحد من المرشحين للانتخابات أو قيادات الأحزاب، هم مشغولون بعمل الصفقات والتحالفات الهزيلة مع الأحزاب الدينية المراوغة، لقد استلهمت شعوب العالم مبادئ ميدان التحرير فى مصر لتنهض وتثور، حتى الشعب الأمريكى نساء ورجالاً قام بالثورة ضد فساد حكم أوباما، وجشع الرأسمالية بعقر دارها فى وول ستريت، والشركات الكبرى والبنك الدولى وصندوق النقد، الذى فاحت رائحة فساده الاقتصادى والأخلاقى معا، حين اعتدى رئيسه الفرنسى العجوز على خادمة الفندق الفقيرة، ثم أخرجه القضاء الأمريكى بريئا نظيفا كالشعرة من العجين، نحن نعيش فى عالم أشبه بالغابة، تحكمه عالمياً ومحلياً قوى ذكورية قائمة على المال والسلاح والإعلام، قلة من الأسياد والملوك فى كل بلد تتحكم فى البلايين من الأموال والملايين من البشر، لا تشبع من النساء والسلطة والذهب، رغم شيخوختها وعقمها الفكرى والجنسى فى آن واحد.