رحّب بالحضور البروفيسور نجيب نبواني في بيتِ التّراثِ الدّرزيّ، شاكرًا هذه اللّفتة البهيّة المتعاونة لإحياء هذه الأمسية التّراثية الخاصّة، ومتمنّيًا التّواصلَ الدّاعمَ الدّائمَ بين بلادِنا ومثقّفيها وآهليها.
جاء في خُطاطةٍ تمهيديّةٍ للشّاعر رشدي الماضي:
مداخلةُ د. فهد أبو خضرة:
جاء في مداخلة د. منير توما:
صدرَ مؤخرًا الكتابُ جديد القيّم للأستاذ سعيد أحمد نبواني، تحت عنوان (أصحابُ الحِرفِ التقليديّة وأدواتُ عملِهم)، حيث لمستُ فيه مدى اهتمام الأستاذ بالجانب الفولكلوري مِن تراثِنا الشّعبيِّ العربيِّ في منطقتِنا عامّة وبلادِنا خاصّة، عن طريق إبرازِهِ للكثيرِ مِن المصطلحاتِ والتّعريفاتِ لأصحاب المِهن المختلفة، مقرونةً بالعديدِ مِن التّقاليدِ والصّناعاتِ الشّعبيّة، التي كانتْ وما زالتْ شائعةً في المدن والأريافِ العربيّةِ في بلادِنا، ممّا أضفى على الكتاب شموليّةً فولكلوريّةً على الموضوع جديرةً بكلّ تقدير واهتمام، ولا سيّما وأنّ الكاتبَ أرادَ مِن ذلك، أن يجعلَ مِن مادّةِ الكتاب توثيقًا مرجعيًّا لكلِّ دارسٍ وقارئٍ ذي ميلٍ، إلى الاطّلاع على هذه الجوانبِ الفولكلوريّة مِن حياةِ مجتمعِنا العربيّ، والعودةِ الى استرجاع المضامينِ الشّعبيّةِ عبْرَ ذاكرةٍ ثقافيّةٍ، تهدفُ إلى إفادةِ الجمهور بكافّةِ قطاعاتِهِ، والأجيالِ النّاشئةِ التي لم تعايشْ مثلَ هذهِ الأمور، لكنّها تسمعُ بها دونَ أن يكونَ لديها معرفةً أو درايةً كاملة بها، وبالتّالي جاءَ هذا الكتابُ لأداءِ رسالةٍ ثقافيّةٍ شعبيّةٍ، طالما افتقدتْها مكتبتُنا العربيّة.
يستهلُّ الكاتبُ كتابَهُ بإلقاءِ الضّوءِ على نظرةِ عامّةِ النّاس إلى المهن أو الحِرفِ تاريخيًّا، مُبيِّنًا أنّ الشّعورَ العربيَّ العامَّ إبانَ الفتوحاتِ الإسلاميّة كانَ يزدري الحِرفة ويُقدّسُ الفروسيّةَ والجهاد، كما كان أيضًا مِن جهةٍ أخرى يعكسُ الاطمئنانَ إلى الوظيفة المُريحة، كمهنة الخطيب والإمام وشيخ الجامع، البعيدة عن عناءِ العمل في الأرضِ والحِرف الأخرى.
يُذكّرُنا الكاتب أيضًا بمدى أهمّيّةِ الحِرفة أو المهنةِ في حياةِ الإنسان، حيثُ يسوقُ لنا أمثلةً مِن تاريخ الأنبياءِ والأتقياءِ والعلماء الّذين مارسوا مِهنًا وحِرَفًا مختلفةً في مسيرتِهم الحياتيّة، كالرّسول العربيّ الكريم (صلعم) الذي عملَ في التّجارةِ المبرورةِ بشكلٍ ناجحٍ وموَفّقٍ، وموسى الّذي عملَ راعيًا على مدارِ عشر سنوات، ونوح الّذي كانَ نجّارًا، وإبراهيم الخليل الّذي عملَ إبان إقامتِهِ في مصر بالتّجارة، وإسماعيل الّذي عملَ بصناعةِ السّهام، وشُعَيْب الذي كانَ حكيمًا واعظًا وخطيبًا، وغير ذلك مِن الأمثلةِ التّراثيّة.
ويستعرضُ بعضًا مِنَ المِهنِ والحِرفِ ومَن نُسِبَ إليها، كالآجريّ والأدميّ والإسكافيّ والبصّال والبطّيخيّ والتّوحيديّ والجزّار والجوزيّ والرّمانيّ، وغيرها مِنَ المِهنِ والحِرفِ الّتي كانتْ شائعةً آنذاك، ويتحدّثُ عن المِهنِ والصّناعةِ والتّجارةِ في الماضي، كصناعةِ الغذاءِ الّتي تشملُ المربّياتِ وصناعةِ السّكّر والزّيت والصّابون في القدس ونابلس، بالإضافةِ إلى إنتاجِ ملح الطّعامِ مِنَ البحر الميّت، وصناعةِ الأقمشةِ وموادِّ البناء التي اشتهرتْ في فلسطين، علاوةً على مزاولةِ سكّانِ البلادِ صناعةَ الدّباغةِ والصّيرفةِ والصّباغة، ولا يفوتُهُ أن يتناولَ بالدّراسةِ حِرفةَ البائع المتجوّل ونداءاتِ الباعة، ويتبعُها بالحديث عن أصحاب الحِرفِ الغذائيّةِ البيتيّةِ التّقليديّة وهدفها في تأمين التّموينِ السّنويّ للمنزل، مِنَ الفواكهِ المجفّفةِ ومُخلّلاتِ الزّيتون والخضروات والألبان والأجبان وغيرها، مثل القطين والشّريحة والزّيتون الأخضر والأسمر والمكابيس، وميّة البندورة والمربّيات وصناعةِ الألبان كالجبن واللبن الرّائب واللبنة وغيرها.
بكثيرٍ مِن الطّرافةِ يُخبرُنا عن صانع قمرالدّين وأنواع المشمش المعروفة، كالبلديّ والعجميّ والحمويّ والكلابيّ والحموريّ والسّنجابيّ واللّوزيّ وغيرها، مُضيفًا إلى ذلك تفصيلَ زخرفةِ وتزيينِ القمرالدين وولادتِهِ الأسطوريّة، ويأتي على ذِكرِ بائع العِرْقْ سوس الذي يتكثّفُ حضورُهُ في ليالي شهر رمضان، ويُضمِّنُ حديثَهُ هذا بالتّطرّقِ إلى صانعِ ماء الوردِ والدّبّاس وصناعةِ الدّبس، والطّاحونة والطّحّان والخبّاز الفرّان.
ويتحدّثُ بشيءٍ مِنَ التّفصيلِ عن كثيرٍ مِنَ المِهن الشّعبيّةِ التي كانتْ سائدةً في الماضي القريب، كالمكوجي والمُبيِّض والكُندرجي – الإسكافي، والحلاّق والصّايغ – الصّائغ وندّاف القطن وصانع الطّرابيش، كما يذكرُ في دراستِهِ الحِرفيّينَ في شؤون الأرض والفلاحة والحصاد، كالحرّاثِ والحصّادِ والأجير والشّكرجيّة - صاحب الشّكارة، والشّلاتي والقطروز والمُخضِّر والنّاطور والمِشحَرْجي، والسّقّا - مُسوِّقو الماء، علاوةً على حديثهِ عن المُنجِّد وصانع البُسُط والسّجّاد، ومهنة التّطريز وغزْل الشّعر ونسجه والنّسّاج والخيّاط وألبسةِ النّساءِ والرّجال، ولباس الرّأس عند الرّجال، وصناعة الحرير من دودة القزّ، والحُصَرْجي صانع الُحصُ والبساط.
ويتطرّقُ إلى منصبِ المختار ومكانتِهِ المرموقةِ بين قوْمِهِ، ويُخبرُنا عن الحَدّاء مطرب الغناء الشّعبيّ من الحدادي والعتابا والميجانا، مُتبِعًا ذلك بالحديث عن المكاييل والأوزان والحِرفيّين في الأمثال الشّعبيّةِ العربيّة، مضمّنًا ذلك بأدواتٍ وأمثالٍ مختلفة ومتنوّعة، وممّا يسترعي الانتباهَ في هذا الكتاب، أنّ الأستاذ سعيد نبواني، قد وضع في الصّفحاتِ الأخيرةِ منهُ صورًا توضيحيّة وملوّنة.
وتحدّث د. محمّد خليل /عن عراقةِ الماضي وأصالةِ الحاضر وإشراقةِ المستقبل:
أنوّه بداية، إلى أنّنا إذا كنّا نحتفي اليوم بكتاب (أصحاب الحرف التقليدية وأدوات عملهم)، فإننا نحتفي أيضًا بمؤلِّفِهِ الأستاذ سعيد نبواني؛ صاحبِ الباع الطّويل والتّجربةِ الغنيّة في مجال الإبداع والتّأليف والإصدار، حقًّا إنّها لمناسبةٌ سعيدة أن نجتمعَ في هذا الاحتفال المبارك بالمؤلِّف والمؤلَّف معًا، وفي هذه البادرة الطّيّبة ما يؤكّد على أنّ مجتمعَنا ما زال بخير وعافية. وبالنّظر إلى أهمّيّة التراث، فإنّ لكلّ ثقافةٍ في هذا الكون الصّغير قِيمَها الفريدة والأصيلة التي لا بديلَ عنها، ذلك لأنّ تراثَ كلِّ شعبٍ، وأشكالَ التّعبيرِ الخاصّةَ به هي من أمضى وسائلِهِ للإفصاح عن وجودِهِ وحضورِهِ في النّسيج الحضاريِّ لهذا الكون، فالتّراثُ يُسهمُ في تأكيدِ الذّاتِ والهُويّةِ، ففيهِ ثروةٌ حقيقيّةٌ للمجتمع وأبنائِهِ على حدّ سواء.
يُشكّلُ التّراثُ لكلِّ مجتمعٍ في منظورٍ ما وجهًا إبداعيًّا حقيقيًّا كانَ يُعَدُّ جديدًا في عصْرِهِ، وإن يُنظر إليه اليومَ على أنّه قديم، وهو إلى ذلك يُساهم في كوْنِهِ أحدَ المركّباتِ، وجزءًا لا يتجزّأ مِن التّراثِ المشترَكِ للإنسانيّةِ جمعاء، ما يعني؛ ضرورةَ أن يُعترَفَ لكلِّ شعب ولكلِّ مجتمع بحقِّهِ في تأكيدِ ذاتِهِ الثّقافيّةِ والحضاريّة، وفي صوْنِها وكفالةِ الاحترام الواجب لها، الأمر الذي يستلزمُ منّا جميعًا وعيًا ثقافيًّا، يكفلُ حمايةَ هذا التّراثِ وصونَه، فكانَ مِن واجب المجتمع وأفرادِهِ لدى كلِّ أمّة المحافظةُ على هذا التّراثِ مِنَ الضّياع والنّسيان، لكي يظلَّ حيًّا في مخزون الذّاكرةِ والوعيِ الجماعيّ، تتناقلُهُ الأجيالُ جيلاً بعدَ جيل .
لقد جاءَ الكتاب ليحفظ هذا الموروثَ العزيز على قلوبنا جميعًا، كيف لا وهو مِن رائحةِ الآباءِ والأجداد، هذه الرائحةُ الطّيّبة التي تنضحُ مِن عبق العراقة وشذا الأصالة، ما لا يمكنُ أن ينقطعَ إلى أبد الآبدين، فهُم الجذعُ والأصلُ لِما قدّموهُ وأبدعوهُ في إنتاج التّراثِ الإنسانيّ الخالد، وهو ما ساعد على تبلوُرِ الهُويّةِ الثّقافيّةِ والاجتماعيّةِ لأهلنا في حينِهِ وعلى مرّ العصور والدّهور .
الإنسانُ توّاقٌ بطبعِهِ إلى الجذور وبه حنين إلى الماضي الغابر؛ عهدِ طفولةِ الأمم والشّعوب، وهذا الكتاب منهلٌ عذبٌ في موضوعِهِ ومضمونِهِ لكلّ طالبِ عِلمٍ أو معرفة، ومرجعٌ يوضع بين أيدي الآباء والأبناء على السّواء، لينهلَ الجميعُ مِن مائِهِ الزّلال، فضلاً عن كوْنِهِ رافعةً قويّةً في مواجهةِ محاولةِ التّزييفِ والتّزوير والتّشويه، تلك التي تهدف في نهايةِ المطاف إلى طمس الهُويّةِ العربيّةِ لمعالم مجتمعِنا وبلادنا، وتقديمِ بدائلَ هزيلةٍ لا تمُتُّ إلى حقيقة الواقع بصِلةٍ، وهو ما يؤكّدُهُ المؤلّفُ نفسُهُ في مقدّمتِهِ إذ يقول:
تلكَ الحِرفُ وكذلك الأدوات تؤكّدُ بما لا يدَعُ مجالاً للشّكِّ وجودَ حضارةٍ نشأتْ وازدهرتْ، ولو بمفهومٍ محدودٍ، ضمنَ الإمكانيّاتِ المتاحةِ وقد قيل: النّاس بأزمانِهم أشبهُ منهُم بآبائهم، فهُم أبدًا مشاكِلون لعصرهم! هكذا جاءت الحِرفُ اليدويّةُ مرآةً عاكسةً في ربوع بلادنا، على سبيل المثال لا الحصر، حيث كانتْ نتاجَ البيئة التي يعيش فيها أصحابُها، بما تحويهِ مِن مواردَ طبيعيّةٍ وموادَّ أوّليّةٍ .
لقد آلَ المؤلّفُ على نفسه أن يقومَ بمهمّتِهِ الشّاقّة على أكمل وجه، مدفوعًا بحُبِّهِ لمجتمعِهِ وتَرفُّقِهِ به وإخلاصِهِ وتفانيهِ في عملِهِ، وذلكَ مِن خلالِ جمْع الموادّ وتبويبِها وتنسيقِها، وتوظيفِهِ للكلمةِ تمامًا مثلما يُوظّفُ الصّورة، إضافة للمقابلاتِ الشّخصيّةِ وإلى ما هنالك، فالجهدُ المبذولُ والأسلوبُ الحاني واضحان للعيان لا يختلفُ فيهما اثنان، الأمر الذي يؤكّدُ على رغبةِ المؤلّفِ الصّادقةِ ودقّتِهِ الموضوعيّةِ، في نقلِ صورةٍ أمينةٍ وحقيقيّة لذلك الواقع دونَ تزيينٍ أو تزييف، وهو ما يُؤهّلُهُ لأن يستحقَّ الثّناءَ والتّقدير. وقد يرى القارئ أنّ مضمونَ الكتاب هو الذي فرضَ على المؤلّف طريقةَ العرض، مع الاتّكاءِ على الكلمةِ والصّورة كما سبق أن أشرنا، بطريقةٍ آسرةٍ ساحرة ، مع ما تضمّنَهُ مِن مفرداتٍ وتعابيرَ رائقةٍ تلامسُ شغافَ القلب والوجدان، وهو مكتوبٌ في الأغلب الأعمّ بأسلوبٍ مباشر، يبدو فيه الكاتبُ مراوحًا بين الموضوعيّةِ والحياديّة وبعيدًا عن الذّاتيّة، فهذه كلّها جهودٌ مباركةٌ على طريق احترامِ التّراثِ والمحافظةِ عليه !
يعرضُ الكتابُ في ثناياهُ صفحاتٍ مشرِّفةً ومشرقةً ناصعةَ البياض، لِما بذلَهُ هؤلاءُ الصّنّاع مِن قصارى جهدِهم، وما أبدعوهُ وأنجزوهُ وقدّموهُ للآخرينَ في مختلف أوجهِ النّشاطاتِ الاجتماعيّة، وأنماطِ الحياة التي عاشَها الآباءُ والأجدادُ، سعيًا إلى تحصيل لقمةِ عيْشِهم بعرَقِ جبينِهم وبكرامةِ وعزّة نفس، ولأجل رفعةِ وراحةِ المجتمع الذي ينتمون إليه، على الرّغم ممّا كانوا يواجهونَهُ في طريقهم مِن ضيق ذاتِ اليدِ وضنكِ العيش وشظفِ الحياة. لقد أثبتَ هؤلاءُ الصّنَّاعُ بأنّهم كانوا يمتلكونَ القدراتِ والمواهبَ التي تُمكّنُهم مِن مواجهةِ صعوباتِ الحياةِ تلك والتّغلّبِ عليها، ما يؤكّدُ على أنّ مجتمعَنا كانَ يعجُّ بالنّشاطِ والحركةِ والعمل وحُبِّ الحياةِ! لقد سعى الكاتبُ لكي يكونَ مؤثّرًا فينا ومفيدًا لنا أفرادًا ومجتمعًا وشعبًا، وفي ذلك أيضًا نجحَ الكاتب أيما نجاح، وللإشارة فقط، فقد خصَّ ابنُ خلدون هؤلاء الصّنّاع بأحدِ فصول مقدّمتِهِ المعروفة، وسمّاهُ بعنوان (فصلٌ في أن الصّنائعَ تحتاجُ إلى العلم)!
إنّ الكتابَ الذي نحتفي بهِ اليوم لهوَ عملٌ ثقافيٌّ مِنَ الدّرجةِ الأولى، فهو جزءٌ مِن المكوّناتِ الأساسيّةِ لحياة الشعوب أفراًدا وجماعاتٍ، في مرحلةٍ محدّدةٍ مِن مراحل تطوّرِها وتقدّمِها ومواكبتِها للحياةِ على مرّ العصور، ويظلُّ الكتابُ وسيبقى أهمَّ مستودَعٍ لهذهِ الكنوز، ناهيكَ بأنّه المصدرُ الأوّلُ للأفكار والمعاني، وهو وعاءُ العلم والمعرفةِ والثّقافة؛ الذي يمكنُ الوصولُ إليه بسهولةٍ أو دون عناءٍ بالغ. بأيديهِم صنعَ هؤلاء الرّجالُ وسائلَهم وأدواتِ عملِهم، لتلبّيَ احتياجاتِهم واحتياجاتِ المجتمع الّذي يعيشونَ بين ظهرانيه، فجعلوا لأيّامِهم معنًى وطعمًا ورائحةً بفضل جهودِهم وإرادتِهم، فهُم الذين أسّسوا وهم الذين أبدعوا وغرسوا وزرعوا وأنتجوا.
ولا يفوتُنا في هذا المقام أن نذكر، بأنّهم كانوا أوّلَ من خلّدوا أنفسَهم بأنفسِهم وذلك مِن خلال حضورِهم الدّائم، بما قدّموهُ للمجتمع من حِرَفٍ وأدواتٍ وبما صنعتْ أيديهم، فعلى الرّغم مِن بساطتِها، لكنَّ فائدتَها كانتْ كبيرةً ومهمّةً، إنّها ثروةٌ حقيقيّةٌ للمجتمع، فما زالتْ تلك الحِرفُ وتلك الأدواتُ تردِّد الصدى قويًّا في مختلفِ مجالاتِ الحياة، فهي تحكي تاريخَ الآباء والأجداد، وتدلُّ عليهم وعلى حضورِهم وعلى فضلِهم، في محاولاتِهم أن يُخفّفوا من عناءِ الحياةِ، أو يجعلوها أكثرَ سعادةً وجمالاً، سعيًا إلى مجتمع متكافلٍ يبحثُ عن الاكتفاءِ الذّاتيّ، في مواجهةِ أعباءِ الحياةِ وتحمُّل تبعاتِها. بهِم يكبرُ المجتمعُ وينمو ويتطوّر، لنذكرَ ونتذكّرَ دائمًا أنّ هؤلاء صنعوا أدواتِهم بأنفسِهم، بمنأى عن تقنيّاتِ العصر الحاضر وآلاتِهِ الحديثة، صحيحٌ أنّ تلكَ الأدوات ليست أيقوناتٍ مقدّسةً يمكنُ أن تحجُبَ رؤيتَنا عن الحقيقة، ولا قناعًا قد يَحُولُ بيننا وبين الحداثة أو دونَ رؤيةِ الواقع المتسارع والمتطوِّر في عصرنا، بل فيها عبارةٌ وعِبرة فيها صورةٌ وفكرة، ومعروفٌ أنّ صورةً واحدةً قد تُغني عن ألفِ كلمةٍ! إذاً؛ لِنَدَعِ الكلماتِ والصّورَ نفسَها هي التي تتكلّمُ وتُفصحُ عن مكنوناتِها.
طوبى لمثل هؤلاء وطوبى لمن خلّدهم وخلّدَ ذكراهم، والمُحتفى به اليومَ في هذا الكتاب هو أحدُهم، لأنّه يُنصفُهم ويَرُدُّ إليهم بعضَ ما لهم علينا مِن جميل، لأنّهم يستحقّونَ التّقديرَ والاحترامَ والتّكريم، وإني لمنتهزٌ الفرصةَ، لأتقدّمَ للمعنيّينَ باقتراح لإنشاءِ متحفٍ يُجمع فيه ما تبقّى، أو لإنقاذِ ما يُمكن إنقاذُهُ مِن أدواتِ الحِرفيّين، حتّى يتمكّنَ أبناؤُنا وبناتُنا مِنَ التّعرّفِ على أدوات الآباء والأجداد عن قرب، وتأكيدًا على العروة الوثقى التي تربط بين الأجيال، فليسَ مَن سمِعَ عن الشّيءِ كمَن شاهدَه!
يُقال إنّ رضا الناسِ غايةٌ لا تُدرَكُ، وكذلك هو رضا القرّاء، فالكمالُ ليسَ مِن سماتِ البشر، مع ذلك سوف نظلّ نصبو إليه ونسعى إلى تحقيقِهِ، وإن كنّا نعلم مُسبقًا، بأنّنا مهْما حاولنا وبذلْنا مِن جهدٍ فلن نبلغَه! لذلك كنت أودّ أن أرى في قابل الأيّام، طبعةً جديدةً منقّحةً ومُصحّحةً لهذا الكتاب. ومهما يكن، فهذا كتابٌ جديدٌ ينضافُ إلى أقرانِهِ في مجال التّراثِ والتاريخ والاجتماع والحضارة، فعلى ما يبدو ما زالَ الموضوعُ يستهوي الباحثَ والدّارسَ وكلَّ مُهتمّ.
منذ سنواتٍ طويلة، والزّميلُ سعيد أحمد نبواني يبذلُ الغالي والرّخيصَ مِن وقتٍ وجهد، في سبيل مشروع جمْع التّراث، الذي خلّفَهُ الآباءُ والأجداد خشيةَ الضّياعِ والنّسيانِ، وتدوينه بصياغةٍ جماليّةٍ جديرةٍ بمادّتِهِ القيّمةِ،ل إضفاءِ المزيدِ من الوضوح على التّراث، وعرْض جوانب كثيرة كانتْ مُهمَلة، فكتبَ وأجادَ بحدسِ مبدعٍ، فاستطاعَ أن يفتحَ زوايا مقفلةً بدراسةٍ نقديّةٍ وشرْح وافٍ موثّق بالملاحقِ والصّورِ النّادرة.
إنّ دراسةَ أدبنا الشّعبيّ إضافةً أنّهُ واجبٌ تاريخيٌّ، فهو أيضًا مهمّةٌ قوميّةٌ نضاليّة، لأنّها انعكاسٌ لمجتمعِنا بكلّ أشكالِهِ وصُورِهِ الحيّة، وهو نبضٌ لعواطفِنا، وتأكيدٌ لتمسّكِنا بتقاليدِنا وتلاحمِنا الأُسَريّ، فلكلّ شعبٍ خصائصُهُ التي تتجسّدُ في ثقافتِهِ، وهذهِ الجداريّاتُ الّتي تحتضنُ تراثَنا الفلسطيني والرّيفَ بمِعوَلِهِ ومِنجلِهِ والأزياءَ الشّعبيّة، ومقتنياتٍ أثريّةً وعملاتٍ قديمة، كلُّها معًا تربطُ ذاكرةَ شعبِنا بتاريخِهِ وثقافتِهِ، فالرّقصُ الشّعبيُّ وأغاني المناسبات والزّغاريد ومناجاة الأطفال والحكاية الشّعبيّة، كلّها عواطفُ وأحاسيسُ تربطُنا بانتماءاتِنا القوميّة، وتُوجّهُنا نحوَ الخيرِ والوفاءِ للّذين سبقونا، والنّماذجُ التي بينَ أيدينا، إنّما تدلُّ على الشّعورِ بصدقِ الكلمةِ الحُرّة، والإحساسِ المُتدفِّقِ مِن معينٍ طيّب، وبرؤى مكتنزةٍ بالمعرفةِ العميقةِ، للحفاظِ على الجذورِ التّراثيّةِ الأصيلة والرّجوعِ إليها، إذ تُشكّلُ إرثًا تعودُ جذورُهُ لسنينَ طويلة، إرثٌ يخطو نحو الأصالة، ويساهمُ في المحافظةِ على هُويّةِ هذه البلاد وتقاليدِ شعبِنا العربي وجوهرِه النّقيّ منَ التّشظّي والضّياع.